قال المصنف رحمه الله: (أما بعد، فإن الصوم) ثالث أركان الإسلام بعد لا إله إلا الله محمد رسول الله، شرعه سبحانه لفوائد أعظمها كونه موجبا سكون النفس الأمارة، وكسر سورتها في الفضول المتعلقة بجميع الجوارح من العين واللسان والأذن والفرج، فإن به تضعف حركتها في محسوساته؛ ولذا قيل: إذا جاعت النفس شبعت جميع الأعضاء، فإذا شبعت جاعت كلها. وعن هذا صفاء القلب من الكدر، فإن الموجب لكدراته فضول اللسان والعين وباقيها، وبصفائه تناط المصالح والدرجات، ومنها كونه موجبا للرحمة والعطف على المساكين، فإنه لما ذاق ألم الجوع في بعض الأوقات ذكر من هذا حاله في جميع الأوقات، فتسارع إليه الرقة عليه، والرحمة حقيقتها في حق الإنسان نوع ألم باطن، فيسارع لدفعه عنه بالإحسان إليه، فينال بذلك ما عند الله تعالى من حسن الجزاء، ومنها موافقة الفقراء بتحمل ما يتحملون، وفي ذلك رفع حال عند الله تعالى، كما حكي عن بشر الحافي أنه دخل عليه رجل في الشتاء فوجده جالسا يرعد وثوبه معلق على المشجب، فقال له: في مثل هذا الوقت ينزع الثوب؟ أو معناه، فقال: يا أخي، الفقراء كثير وليس لي طاقة مواساتهم بالثياب فأواسيهم بتحمل البرد كما يتحملون. وبالنظر إلى ما ذكرناه، قيل: الصوم (ربع الإيمان) وذلك (بمقتضى قوله صلى الله عليه وسلم: nindex.php?page=hadith&LINKID=678248الصوم نصف الصبر) .
قال العراقي: رواه nindex.php?page=showalam&ids=13948الترمذي وحسنه من حديث رجل من بني سليم، nindex.php?page=showalam&ids=13478وابن ماجه من حديث nindex.php?page=showalam&ids=3أبي هريرة اهـ .
قال العراقي: رواه nindex.php?page=showalam&ids=12181أبو نعيم في الحلية، nindex.php?page=showalam&ids=14231والخطيب في التاريخ من حديث nindex.php?page=showalam&ids=10ابن مسعود بسند حسن. اهـ .
قلت: وأخرجه nindex.php?page=showalam&ids=13933البيهقي من هذا الوجه بزيادة: واليقين الإيمان كله، وقال: تفرد به يعقوب بن حميد عن محمد بن خالد المخزومي، والمحفوظ عن nindex.php?page=showalam&ids=10ابن مسعود من قوله غير مرفوع. اهـ .
ويعقوب، قال الذهبي: ضعفه أبو حاتم وغير واحد، وقد ذكر المصنف فيما بعد في المنجيات تحقيق معنى هذا الحديث؛ حيث قال: والمراد بالصبر العمل بمقتضى اليقين؛ إذ اليقين معرفة أن المعصية ضارة والطاعة نافعة، ولا يمكن ترك المعصية والمواظبة على الطاعة إلا بالصبر، وهو استعمال باعث الدين في قهر باعث الهوى والكسل، فكان الصبر نصف الإيمان بهذا الاعتبار. اهـ .
ثم وجهوا في كون الصيام نصف الصبر، بأن الصبر حبس النفس عن إجابة داعي الشهوة والغضب، فالنفس تشتهي الشيء بحصول [ ص: 188 ] اللذة بإدراكه وتغضب لقوته وتنفر لنفرتها عن المؤلم، والصوم صبر عن مقتضى الشهوة فقط، وهي شهوة البطن والفرج دون مقتضى الغضب، لكن من كمال الصوم حبس النفس عنهما، وقال الحليمي: إنما كان الصيام نصف الصبر؛ لأن جميع العبادات فعل وكف، والصوم يقمع الشهوة فيسهل الكف، وهو شرط الصبر، فهما صبران: صبر عن أشياء، وصبر على أشياء. والصوم معين على أحدهما؛ فهو نصف الصبر. اهـ .
وقد أخرجه أيضا nindex.php?page=showalam&ids=14269الدارقطني في الإفراد، nindex.php?page=showalam&ids=14687والطبراني في الكبير، nindex.php?page=showalam&ids=13933والبيهقي، والجمع بينه وبين حديث nindex.php?page=showalam&ids=3أبي هريرة هذا: أنه لم يرد بحديث nindex.php?page=showalam&ids=3أبي هريرة انتهاء التضعيف بدليل أن في بعض طرقه بعد قوله: إلى سبعمائة إلى أضعاف كثيرة، وفي أخرى: إلى ما يشاء الله، فهذه الزيادة تبين أن هذا التضعيف يزاد على السبعمائة، والزيادة من الثقة مقبولة على الصحيح .
الثالثة: اختلف في هذا الاستثناء، فقيل: من التضعيف كما يومئ إليه سياق المصنف الآتي بعد هذا، وقيل: من العمل، ويؤيده رواية أبي صالح عن nindex.php?page=showalam&ids=3أبي هريرة: nindex.php?page=hadith&LINKID=651771كل عمل ابن آدم له إلا الصيام فإنه لي وأنا أجزي به، وبه يظهر معنى قوله: لي، أي: ليس للصائم فيه حظ، وهو أحد الوجوه في تفسيره، نقله القاضي عن nindex.php?page=showalam&ids=14228الخطابي.
الرابعة: اختلفوا في قوله: nindex.php?page=hadith&LINKID=651771لي وأنا أجزي به، مع كون العبادات كلها له تعالى على أقوال منها ما أشار إليه المصنف في تضاعيف كلامه تلويحا وتصريحا كما ستأتي الإشارة إليه، ومنها ما تقدم عن nindex.php?page=showalam&ids=14228الخطابي قريبا، ومنها أن الاستغناء عن الطعام والشراب من صفات الله تعالى، فكأنه يتقرب إلى الله بشبه صفة من صفاته، وإن كان تعالى لا شبه له في صفاته. نقله القاضي، وأشار إليه الشيخ الأكبر - قدس سره- بقوله: ولما كان العبد موصوفا بأنه ذو صوم وأنه الصائم، ثم بعد إثبات الصوم له سلبه الحق عنه وأضافه إلى نفسه، فقال: nindex.php?page=hadith&LINKID=651771إلا الصيام فإنه لي، أي: صفة الصمدانية، وهي التنزيه عن الغذاء ليس إلا لي، وإن وصفتك به فإنما وصفتك باعتبار تقييد ما من تقييدات التنزيه لا بإطلاق التنزيه الذي ينبغي لجلالي، فقلت: وأنا أجزي به، فكان الحق جزاء الصوم للصائم، ومنها قيل: سبب إضافته إليه تعالى أنه لم يعبد به أحد سواه، فلم تعظم الكفار في عصر من الأعصار معبودا لهم بالصيام، وإن كانوا يعظمونه بصورة الصلاة والسجود والصدقة والذكر وغير ذلك. حكاه النووي في شرح nindex.php?page=showalam&ids=17080مسلم، قال العراقي في شرح nindex.php?page=showalam&ids=13948الترمذي: ونقضه بعضهم بأرباب الاستخدامات فإنهم يصومون للكواكب، قالوا: ليس هذا بنقض صحيح؛ لأن أرباب الاستخدامات لا يعتقدون أن الكواكب آلهة، وإنما يقولون: إنها فعالة بنفسها وإن كانت عندهم مخلوقة، ومنها أن معنى هذه الإضافة أن سائر العبادات يوفى منها ما على العبد من الحقوق إلا الصيام فإنه يبقى موفرا لصاحبه لا يوفى منه حق، وقد ورد ذلك في حديث، قال أبو العباس القرطبي: وقد كنت استحسنته إلى أن وجدت حديثا فيه ذكر الصوم في جملة الأعمال المذكورة للأخذ منها، فإنه قال فيه: nindex.php?page=hadith&LINKID=688531المفلس الذي يأتي يوم القيامة بصلاة وصدقة وصيام، ويأتي وقد شتم هذا.. الحديث. قال: وهذا يدل على أن الصيام يؤخذ كسائر الأعمال. اهـ .
قال العراقي: قلت: إذا صحح ذلك الاستثناء فهو مقدم على هذا العموم، فيجب الأخذ به، والله أعلم .
فهذا أربعة أقوال مع قول nindex.php?page=showalam&ids=14228الخطابي.