(السادس) من المحظورات (قتل صيد البر ) لقوله تعالى : وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما ولا يختص تحريمه بالإحرام ، بل له سبب آخر ، وهو كونه في الحرم ، ولما اشترك السببان فيما يقتضيانه من التحريم ، والجزاء ، ولذا قال أصحابنا : المراد بجناية الإحرام ما تكون حرمته بسبب الإحرام ، أو الحرم ، ثم قال المصنف : (أعني ما يؤكل) إذا كان وحشيا ، ولا فرق في وجوب الجزاء بين أن يكون الصيد مملوكا لإنسان ، أو مباحا ؛ نعم ، يجب في المملوك مع الجزاء ما بين قيمته حيا ، ومذبوحا بحق الملك ، وعن المزني أنه لا جزاء في الصيد المملوك ، وما ليس بمأكول من الطيور ، والدواب صنفان ما ليس له أصل مأكول ، وما أحد أصليه مأكول . أما الصنف الأول ، فلا يحرم التعرض له بالإحرام ، ولو قتله المحرم يلزمه الجزاء ، وبه قال nindex.php?page=showalam&ids=12251أحمد ، وقال nindex.php?page=showalam&ids=11990أبو حنيفة : يجب الجزاء بقتل غير المأكول من الصيد إلا الذئب ، والفواسق الخمس ، وقال nindex.php?page=showalam&ids=16867مالك : ما لا يبتدئ بالإيذاء يجب الجزاء فيه كالصقر ، والبازي ، ثم الحيوانات الداخلة في هذا الصنف على أضرب منها ما يستحب قتلها للمحرم ، وغيره ، وهي المؤذيات بطبعها والفواسق الخمس ، وفي معناها الحية ، والذئب ، والأسد ، والنمر ، والدب ، والنسر ، والعقاب ، والبرغوث ، والبق ، والزنبور ، ولو ظهر العمل على بدن المحرم ، أو ثيابه لم يكن له تنحيته ، ولو قتله لم يلزمه شيء ، وللصئبان حكم القمل ، ويكره أن يفلي رأسه ، ولحيته ، فإن فعل ، فأخرج منها قملة قتلها تصدق ، ولو بلقمة ؛ نص عليه ، وهو عند الأكثرين محمول على الاستحباب ، ومنها الحيوانات التي فيها منفعة ، ومضرة كالفهد ، والصقر ، والبازي ، فلا يستحب قتلها لما يتوقع من المنفعة ، ولا يكره لما يخاف من المضرة ، ومنها التي لا تظهر فيها منفعة ، ولا مضرة كالخنافس ، والجعلانات ، والسرطان ، والرخمة ، والكلب الذي ليس بعقور ، فيكره قتلها . قال النووي : أي كراهة تنزيه ، وفي كلام بعضهم ما يقتضي التحريم .
والصنف الثاني : ما أحد أصليه مأكول كالمتولد بين الذئب ، والضبع ، وبين حمار الوحش ، وحمار الأهل ؛ فيحرم التعرض له ، ويجب الجزاء فيه احتياطا كما يحرم أكله احتياطا ، وإليه أشار المصنف (أو ما هو متولد من الحلال ، والحرام) ، وأما الحيوانات الإنسية كالنعم ، والخيل ، والدجاج يجوز للمحرم ذبحها ولا جزاء عليه ، وأما [ ص: 323 ] ما يتولد من الوحشي ، والإنسي كالمتولد من اليعقوب ، والدجاجة ، أو الضبع ، والشاة فيجب في ذبحه الجزاء احتياطا (فإن قتل صيدا فعليه مثله من النعم يراعى فيه التقارب في الخلقة) اعلم أن الصيد على قسمين : مثلي هو ما له مثل من النعم ، وغير مثلي . أما الأول فجزاؤه على التخيير ، والتعديل ؛ قال الله تعالى : فجزاء مثل ما قتل من النعم إلى قوله : صياما ثم إن المثلي ليس معتبرا على التحقيق إنما هو معتبر على التقريب ، وليس معتبرا في القيمة ، بل في الصورة ، والخلقة ؛ لأن الصحابة - رضي الله عنهم - حكموا في النوع الواحد من الصيد النوع الواحد من النعم مع اختلاف البلاد ، وتقارب الأزمان ، واختلاف القيم بحسب اختلافهما ، فعلم أنهم اعتبروا الخلقة ، والصورة ، فما ورد فيه نص ، فهو متبع ، وكذلك كل ما حكم فيه عدلان من الصحابة ، والتابعين ، أو من أهل عصر آخر من النعم أنه مثل الصيد المقتول يتبع حكمهم ، ولا حاجة إلى تحكيم غيرهم قال الله تعالى : يحكم به ذوا عدل منكم ، وقد حكما ، وعن مالك لا بد من تحكيم عدلين من أهل العصر ، وما ليس بمثلي كالعصافير ، وغيرها من الطيور ففيه قيمته ، وفيه تفصيل يراجع في فروع المذهب .
(وصيد البحر حلال ، ولا جزاء فيه ) لقوله تعالى : أحل لكم صيد البحر الآية . قال الأصحاب : وصيد البحر هو الذي لا يعيش إلا في البحر ، أما ما يعيش في البر ، والبحر ، فهو كالبري ، والطيور المائية التي تغوص في الماء ، وتخرج من صيد البر لأنها لو تركت في الماء هلكت ، والجراد من صيد البر ، ويجب الجزاء بقتله ، وبه قال nindex.php?page=showalam&ids=12ابن عمر ، nindex.php?page=showalam&ids=11وابن عباس ، وحكى الموفق بن طاهر قولا غريبا أنه من صيود البحر لأنه يتولد من روث السمك ، والله أعلم .
(فصل)
على تحريم صيد البر اتفق عامة العلماء ، وهو اتفاق أهل الله أيضا في اعتباره ، ومعناه قال بعضهم الزاهد صيد الحق من الدنيا ، والعارف صيد الحق من الجنة ، فالحلق صيد للحق من نفوسهم برا وبحرا ، فاعلم أن الحق تعالى نصب حبالات لصيد النفوس الشاردة مما خلقت له من عبادته ، ثم خدعهم بالحب الذي جعل لهم في تلك الحبالات ، أو الطعوم ، أو ذوات الأرواح المشتهية لهم في الحياة جعلها مقيدة في الحبالات من حيث لا يشعرون ، فمن الصيد من أوقعه في الحبالة رؤية الجنس طمعا في اللحوق بهم فصار في قبضة الصائد فقيده ، وهو كان المقصود ؛ لأنه مطلوب لعينه ، ومن الصيد من أوقعه الطمع في تحصيل الحب المبذور في الحبالات ، فأبصره ، فقاده الإحسان فرمى نفسه عليه فصاده ، فلولا الإحسان ما جاء إليه ، فمجيئه معلول ، والبر هو المحسن ، والإحسان ، والحق غيور ، فما أراد من هذه الطائفة الخاصة الذين جعلهم حراما ليكونوا له أن يجعلهم عبيد إحسان ، فيكون للإحسان لا له ، ولهذا دعاهم شعثا غبرا مجردين من المخيط ملبين لإجابته بالإهلال كما أجاب الطائر لصوت الصائد فحرم عليهم لمكانتهم صيد البر الذي هو الإحسان ما داموا حرما حالا في المكان الحلال ، والحرام ، ومكانا في الحرام ، وإن كانوا حلالا أو حراما فحيثما كانت الحرمة امتنع صيد الإحسان ، فإن الله من صفاته الغيرة ، فلم يرد أن يدعو هذه الطائفة المنعوتين بالإحرام من باب النعم ، والإحسان فيكونون عبيد إحسان لا عبيد حقيقة ؛ فإنه استهضام بالجناب الإلهي . يقال : من صحبك لغرض انقضت منه بانقضائه وصحبة العبد ربه ينبغي أن تكون ذاتية كما هي في نفس الأمر ؛ لأنه لا خروج للعبد عن قبضة سيده ، وإن أبق في زعمه كما هو ملكه ، وهو جاهل بملك سيده ، فلهذا حرم على الحاج صيد البر ما دام حراما ، فإذا خرج من إحرامه وصار حلالا حل له صيد البر ، وهو قوله - صلى الله عليه وسلم - : nindex.php?page=hadith&LINKID=666092أحبوا الله لما يغذوكم به من نعمه . خطابا منه لعبيد الإحسان حيث جهلوا مقاديرهم ، وما ينبغي لجلال الله من الانقياد بالطاعة إليه ، ولم يحرم صيد البحر على المحرم ما دام حرما ، لأن صيد البحر صيد ماء ، وهو عنصر الحياة ، والمطلوب بإقامة هذه العبادة ، وغيرها إنما هو حياة القلوب ، والجوارح وقعت المناسبة بين ما طلب منه ، وبين الماء ، فلم يحرم صيده أن يتناوله ، ولهذا جاء بلفظ البحر لاتساعه ؛ فإنه يعم ، وكذلك هو الأمر في نفسه ؛ فإنه ما من شيء خلقه إلا هو يسبح بحمده ، ولا يسبح إلا هي فسرت الحياة في جميع الموجودات ، فاتسع حكمها فناسب البحر في الاتساع ، ولذا لم يقل صيد الماء لمراعاة السعة التي في البحر ، فصيد البحر حلال للحلال ، والحرام ، والله أعلم .