الحمد لله الشاملة رأفته العامة رحمته الذي جازى عباده عن ذكرهم بذكرهم ، فقال تعالى فاذكروني : أذكركم .
ورغبهم في السؤال والدعاء بأمره ، فقال : ادعوني أستجب لكم فأطمع المطيع والعاصي والداني والقاصي في الانبساط إلى حضرة جلاله برفع الحاجات والأماني بقوله فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان والصلاة على محمد سيد أنبيائه وعلى آله وأصحابه خيرة أصفيائه وسلم تسليما كثيرا .
وشرح فضيلة الدعاء وشروطه وآدابه ونقل المأثور من الدعوات الجامعة لمقاصد الدين والدنيا والدعوات الخاصة لسؤال المغفرة والاستعاذة وغيرها .
ويتحرر المقصود من ذلك بذكر أبواب خمسة :
الباب الأول : في فضيلة الذكر وفائدته جملة وتفصيلا .
الباب الثاني : في فضيلة الدعاء وآدابه وفضيلة الاستغفار والصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم .
الباب الثالث : في أدعية مأثورة ومعزية إلى أصحابها وأسبابها .
الباب الرابع : في أدعية منتخبة محذوفة الإسناد من الأدعية المأثورة .
الباب الخامس : في الأدعية المأثورة عند حدوث الحوادث .
[ ص: 2 ] بسم الله الرحمن الرحيم
وصلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم
الله ناصر كل صابر، الحمد لله مستحق الحمد حتى لا انقطاع، ومستوجب الشكر بأقصى ما يستطاع، الذي لا يستفتح بأفضل من اسمه كلام، ولا يستنجح بأحسن من صنعه مرام، الوهاب المنان، الرحيم الرحمن، المدعو بكل لسان، المرجو للعفو والإحسان، الذي لا خير إلا منه، ولا فضل إلا من لدنه .
وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، الجميل العوائد، الجزيل الفوائد، أكرم مسؤول، وأعظم مأمول، عالم الغيوب، مفرج الكروب، مجيب دعوة المضطر المكروب .
وأشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله، وحبيبه وخليله، الوافي عهده، الصادق وعده، ذو الأخلاق الطاهرة، المؤيد بالمعجزات الظاهرة، والبراهين الباهرة، صلى الله عليه، وعلى آله وأصحابه، وتابعيه وأحزابه، صلاة تشرق إشراق البدور، وتتردد تردد أنفاس الصدور، وسلم وكرم وشرف وعظم .
أما بعد:
فهذا شرح ( كتاب الأذكار والدعوات) وهو التاسع من الربع الأول من الإحياء، للإمام الهمام حجة الإسلام nindex.php?page=showalam&ids=14847أبي حامد الغزالي، تغمده الله بالرحمة الشاملة، والمغفرة الكاملة، سلكت شعابه، ورضت صعابه، فكم من مشكل قد أعربت عنه! وبينت ما أبهم منه، وهذبت فوائده أحسن تهذيب، وأوضحت مروياته على أجمل ترتيب، بتحرير ما ينبغي تحريره، وتقرير ما يقتضى تقريره؛ إحكاما للقواعد، وإجراء على جميل العوائد، حتى وضح سبيله للواردين، وراق زلاله للشاربين، هذا مع ما أنا فيه من اختلاف الأحوال، وتشتيت البال، وتواتر الأنكاد والأهوال، وكدورات تفرق الأوصال، وأشغال تحجب الخواطر عن الأعمال، متوسلا بيمن جاه مؤلفه إلى المولى اللطيف، أن يمن علينا بالعفو والعافية، والنجدة من كل مخيف .
عسى الكرب الذي أمسيت فيه يكون وراءه فرج قريب
إنه على فرجه قدير، وبما أملته قدير .
قال المصنف رحمه الله تعالى: ( بسم الله الرحمن الرحيم) أمام [ ص: 3 ] كتابه ومقدمة خطابه، مضمرا فيه فعلا من الحمد، يقول: لا يثنى على الله إلا بأسمائه الحسنى، وهي هنا ثلاثة، الاسم الله، وهو الجامع، ودلالته على الذات المجردة على الإطلاق، لا من حيث هي بنفسها من غير نسبة، ولكون الاسم الله غير مشتق لا يتوهم في البسملة اشتقاق؛ ولهذا سميت بها، وهو الاسم مع الله، والرحمن الرحيم لا من حيث المرحومين ولا من حيث تعلق الرحمة بل من حيث ما هي صفة له جل جلاله؛ فإنه ليس لغير الله ذكر في البسملة، ومهما ورد اسم الإله لا يتقدمه كون ولا يتأخره كون؛ فإن ذلك الاسم ينظر فيه العارف من حيث دلالته على الذات لا من حيث الصفة المعقولة منه ولا من حيث ما يطلبه الكون .
( الحمد لله) أي: عواقب الثناء ترجع إليه سبحانه، أي: بكل ثناء يثنى به على كون من الأكوان دون الله تعالى فعاقبته إليه بطريقتين:
إحداهما: أن الثناء على الكون إنما يكون بما هو عليه ذلك الكون من الصفات المحمودة، أو بما يكون منه وعلى أي: وجه كان، فإن ذلك راجع إلى الله تعالى؛ إذ كان الله هو الموجد لتلك الصفة ولذلك الفعل، لا للكون، فعاقبة الثناء عادت إلى الله تعالى .
والثانية: أن ينظر العارف فيرى أن وجود الممكنات المستفاد إنما هو عن ظهور الحق فيها، فهو متعلق الثناء لا الأكوان، ثم إنه ينظر في موضع اللام من قوله "لله" فيرى أن الحامد عين المحمود لا غيره، فهو الحامد المحمود، ينفى الحمد عن الكون من كونه حامدا، وبقي كون الكون محمودا، فالكون من وجه محمود لا حامد، ومن وجه لا حامد ولا محمود .
( الشاملة رأفته العامة رحمته) الشمول والعموم بمعنى واحد، وهو الإكثار وإيصال الشيء إلى جماعة، قاله nindex.php?page=showalam&ids=14803أبو البقاء، وقال غيره: هو إحاطة الأفراد دفعة، والرأفة: عطف العاطف على من يجد عنده منه وصلة، فهي رحمة، وفي الصلة بالرحم، والرحمة تعم من لا صلة له بالرحم، والمرؤوف به تقيمه الرأفة حتى تحفظ بمسراه في سره ظهور ما يستدعي العلو، وتارة يكون هذا الحفظ بالقوة، بنصب الأدلة، وتارة يضم إلى ذلك الفعل بخلق الهداية في القلب، وهذا خاص بمن له بالنعم نوع وصلة، والرحمة نحلة ما يوافي المرحوم في ظاهره وباطنه، أدناه كشف الضر وكشف الأذى، وأعلاه الاختصاص برفع الحجاب .
وقال المصنف في "المقصد الأسنى" عموم الرحمة من حيث تشمل المستحق وغير المستحق، وعم الدنيا والآخرة، وتناول الضرورات والحاجات والمزايا الخارجة عنها .
( والصلاة) التامة الكاملة ( على محمد سيد أنبيائه) أي: رئيسهم إن خلقا وإن خلقا ( وعلى آله وصحبه خيرة أصفيائه) يقال: رجل خير ككيس ذو خير، وقوم أخيار وخيرة، والأصفياء جمع صفي، وهو المختار، والمعنى: أن آله وأصحابه هم المختارون لصحبته، وهم ذوو الخير والفضل والمجد، أو خيار المختارين الذين اصطفاهم الله تعالى لمحبته وعشرته .
( وسلم) تسليما ( كثيرا، أما بعد فليس بعد تلاوة كتاب الله عز وجل) ودراسته ( عبادة) تعبدنا الله بها ( تؤدى باللسان) وبالجنان أيضا ( أفضل من ذكر الله تعالى و) لا أعظم من ( رفع الحاجات إليه بالأدعية الخالصة) وهي التي تكون بإخلاص قلب، وإمحاض نية ( إلى الله تعالى) خاصة؛ لما فيها من إظهار عز الربوبية من ذل العبودية، وبها تحصل السعادة الأبدية، والحياة السرمدية .
[ ص: 4 ] وهي الوصلة إلى الجنان، والوسيلة إلى النظر والرضوان، ويحصل للداعي ما لا يحصل بغيره من العبادات؛ لأن انتفاعه بفعله العبادات ونفع الدعاء يقع في الحياة والممات، فيكون الوالد لولده حيا وميتا، وكذا الولد لوالده، والحبيب لحبيبه، والقريب للبعيد، والبعيد للقريب، وهو مظنة بالإجابة بدليل تأمين الملك، وقوله: "ولك مثله" مع سهولة الدعاء وعدم تقيده بمكان ولا زمان، والدعاء واصل للمدعو له بإجماع، وكذا الصدقة عن الميت، بخلاف غيره من العبادات، ففي وصولها إليه خلاف .
وفي قوله صلى الله عليه وسلم: nindex.php?page=hadith&LINKID=814921 "الدعاء مخ العبادة" ولم يرد ذلك في غيره من العبادات لطيفة، وهو أنه لما كان المخ من أعضاء الحيوان هو المغذي لها والمقوم لاستدامة بقائها شبه الدعاء به؛ لأنه يعمل هذا العمل، ووجه تخصيصه بذلك من دون سائر العبادات اشتماله على حضور قلبي لا يوجد في غيره؛ فإن من تعبد بالصلاة أو الصوم أو الحج وغيرها يغلب عليه فيها الغفلة، فإذا دعا استدعى ذلك منه مزيد حضور في قلبه، ذلك الحضور هو رفع العبادة؛ فلذا جاء التخصيص .
ويؤخذ منه تفضيل الداعي على العابد؛ وذلك لما فيه مع الحضور من التذلل وإظهار الفاقة وذل العبودية وعز الربوبية، فكل داع عابد ولا ينعكس، والدعاء دأب الأنبياء -عليهم السلام- ومفزعهم في الشدائد، على ما أخبر تعالى في سورة الأنبياء وغيرها بقوله: إنهم كانوا يسارعون في الخيرات ويدعوننا رغبا ورهبا فنبه على علة الإجابة لدعائهم، وأنها ثواب لهم بطاعتهم، وتعجيلها جزاء لمسارعتهم إلى ما كلفوا به، وفي ذلك حث على الطاعة .
( فلا بد من شرح فضيلة الذكر على الجملة) أي: إجمالا ( ثم على التفصيل في أعيان الأذكار وشرح فضيلة الدعاء) ومطلوبيته وأفضليته ( وشروطه وآدابه ونقل المأثور) أي: المروي ( من الدعوات الجامعة لمقاصد الدين والدنيا) من جوامع الكلم الشريفة ( والدعوات الخالصة لسؤال المغفرة والاستعاذة وغيرها، ويتحرر المقصود من ذلك) كله ( بذكر أبواب خمسة:
الباب الأول: في فضيلة الذكر وفائدته جملة وتفصيلا .
الباب الثاني: في فضيلة الدعاء وآدابه) وشروطه ( وفضيلة الاستغفار و) فضيلة ( الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم .
الباب الثالث: في أدعية مأثورة) أي: منقولة عن السلف ( ومعزية) أي: منسوبة ( إلى أصحابها وأسبابها .
الباب الرابع: في) ذكر ( أدعية منتخبة) مختارة ( محذوفة الإسناد) وفي نسخة: الأسانيد ( من الأدعية المأثورة) عن النبي صلى الله عليه وسلم .
( الباب الخامس: في) ذكر ( الأدعية المأثورة) المروية المرفوعة ( عند حدوث الحوادث) من نوائب الدهر .