أما الآيات ( قال الله عز وجل: وإذا سألك عبادي عني فإني قريب ) أي: فقل لهم: إني قريب، ففيه إضمار، وهو تمثيل لكمال علمه بأفعال العباد وأقوالهم، واطلاعه على أحوالهم، بحال من كان قريبا مكانه منهم .
وروي أن أعرابيا قال لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "أقريب ربنا فنناجيه أم بعيد فنناديه، فنزلت هذه الآية" ( أجيب دعوة الداع إذا دعان ) تقرير للقرب، ووعد للداعي بالإجابة، قرأ أهل المدينة غير قالون وأبو عمرو بإثبات الياء فيهما في الوصل، والباقون بحذفها وصلا ووقفا ( فليستجيبوا لي ) إذا دعوتهم للإيمان وللطاعة، كما أجيبهم إذا دعوني لمهماتهم وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون .
قال أبو عبد الله الزركشي في كتاب الأزهية: وفي الآية لطائف:
ثانيها: إضافة العبد بياء التشريف يدل على أن العبد له، وقوله: قريب يدل على أن الرب للعبد .
ثالثها: لم يقل: العبد قريب مني بل أنا منه قريب؛ لأن العبد ممكن الوجود فهو من حيث هو لا بد وأن يكون مركز العدم وحضيض الفناء، فكيف يكون قريبا من القريب وهو الحق، فالعبد لا يمكنه القرب من الحق، والحق بفضله وكرمه يقرب إحسانه منه؛ فلهذا قال: فإني قريب ومعنى القرب أنه إذا أخلص في الدعاء، واستغرق في معرفة الله امتنع أن يبقى بينه وبين الحق واسطة، وذلك هو القرب. اهـ .
قلت: وقال الشيخ الأكبر -قدس سره-: الطريق من الحق تعالى إلى الخلق هي على حكم واحد، وقال تعالى: وهو معكم أين ما كنتم وقال تعالى: وهو على كل شيء شهيد لكن إنما الشأن أن يكون لطريقك أنت، به تتصل؛ لأنك أنت محل الحجاب، فإذا زالت الحجب عنك وذهبت الغفلة حينئذ تتصف بالقرب من هذه المرتبة، والمقام الذي هو مقام الصالحين والمقربين، فالقرب إنما هو قرب مخصوص، وكذلك البعد، والذي يتقرب إليه إنما هو مقام السعادة الخاصة التي جاءت بها الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- انتهى .
وقد تقدم قريبا في بيان معاني الذكر الكلام على القرب والبعد، له شديد تعليق بهذا المقام، فانظره .
( وقال تعالى: ادعوا ربكم تضرعا وخفية إنه لا يحب المعتدين ) والمعنى: ادعوا ربكم ذوي تضرع وإخفاء؛ فإن الإخفاء أقرب إلى الإخلاص، والمعتدون هم المتجاوزون في الدعاء بالإجهار فيه، أو بالسباب، أو بطلب ما لا يقتضيه حاله، وسيأتي الكلام عليه قريبا .
( وقال عز وجل: قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن أيا ما تدعوا فله الأسماء الحسنى) نزلت حين سمع المشركون رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "الله يا رحمن" فقالوا: إنه ينهانا أن نعبد إلهين وهو يدعو إلها آخر، والمراد التسوية بين اللفظين؛ فإنهما يطلقان على ذات واحدة، وإن اختلف اعتبار اطلاقهما، والتوحيد إنما هو للذات الذي هو المعبود، والواو للتخيير، والتنوين في "أيا" عوض عن المضاف، و"ما" صلة لتأكيد ما في أي من الإبهام، كان أصل الكلام: وأيا ما تدعوا فهو أحسن، فوضع موضعه فله الأسماء الحسنى للمبالغة والدلالة على ما هو الدليل عليه، وكونها حسنى لدلالتها على صفات الجلال والإكرام .
قلنا: اختلفوا في معنى الآية الأولى، قيل: معنى الدعاء الطاعة، ومعنى الإجابة الثواب. وقيل: معنى الآيتين خاص وإن كان لفظهما عاما، تقديرها: أجيب دعوة الداعي إذا شئت، كما قال تعالى: فيكشف ما تدعون إليه إن شاء ، أجيب دعوة الداع إن وافق القضاء، وأجيبه إن كانت الإجابة خيرا له، وأجيبه إن لم يسأل محالا .
وقيل: هو عام، ومعنى قوله أجيب أي: أسمع، ويقال: ليس في الآية أكثر من إجابة الدعوة، فأما إعطاء الأمنية فليس بمذكور فيها، وقد يجيب دعاء السيد عبده، والوالد ولده، ثم لا يعطى سؤاله، فالإجابة كائنة لا محالة عند حصول الدعوى .