الحمد لله الذي أحسن تدبير الكائنات فخلق الأرض والسماوات أنزل الماء الفرات من المعصرات فأخرج به الحب والنبات وقدر الأرزاق والأقوات .
وحفظ بالمأكولات قوى الحيوانات وأعان على الطاعات والأعمال الصالحات بأكل الطيبات والصلاة على محمد ذي المعجزات الباهرات وعلى آله وأصحابه صلاة تتوالى على ممر الأوقات وتتضاعف بتعاقب الساعات وسلم تسليما كثيرا .
(بسم الله الرحمن الرحيم
ناصر كل صابر، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم)
الحمد لله الذي جعل الأمور العادية مقصودة لمواضع الحاجات، وأجرى سنته في حفظ قوام البدن بتناول ما يستعان به على الطاعات، وخلق الشمس والقمر والنجوم بأمره مسخرات، أحمده على أن ركب الآدمي بلطيف حكمته من أخص جواهر الجسمانيات والروحانيات، وجعله مستودع خلاصة الأرض والسماوات، وجعل عالم الشهادة وما فيها من الحيوان والنبات عمارة وإصلاحا للبدن، وكون فيه الحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسات، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة آمن بها من فساد الطويات، واعوجاج الهيئات، وأسلم بها من رداءة الطبائع وتخريب البنيات، وأصلي وأسلم على سيدنا محمد نبيه النبيه، المعصوم من التمويه، القانت المصلح الحكيم، المرسل بالآيات الواضحات، والدلائل القاطعات، الآمر أمته بإصلاح النيات، وعلى آله الهداة وأصحابه الثقات، والتابعين لهم بإحسان إلى ما بعد الممات، ما أجريت العادات، لإحياء مراسم العبادات .
أما بعد، فهذا شرح (كتاب آداب الأكل) وهو الأول من ربع العادات من الإحياء لإمام العلوم، حجة الإسلام، قطب دائرة الفهوم nindex.php?page=showalam&ids=14847أبي حامد الغزالي، المخصوص بالتقديم في كل إمام ومأموم، سقى الله ضريحه صوب الغفران، وأحيا بمعارفه ميت القلوب في كل زمان، يحل من رشق ألفاظه ما خفي ودق تيسيرا للطالبين، ويحقق من رموز معانيه الأقوم الأحق إرشادا للراغبين، فمن أم متنه بهذا الشرح حاز حسن السلوك، وأذن له بالدخول في مقاصير الملوك، فهو [ ص: 209 ] نعم الحضير في المسالك والدليل لكل سالك، والصديق الصادق، والرفيق الموافق. شرعت فيه وجوارحي هدف سهام الآلام، وخواطري أحاطت بها شغل الشواغل من وراء ومن أمام، فإلى الله أشكو بثي وحزني، وهو المعين لا إله سواه، ولا شافي إلا إياه، إليه فوضت أمري وعليه اعتمدت في تيسير عسيري، سبحانه سبحانه جل شأنه، ما أعظم امتنانه، وهو حسبي ونعم الوكيل وعليه قصد السبيل .
قال المصنف رحمه الله تعالى: (بسم الله الرحمن الرحيم) اقتداء بكتاب الله العظيم واقتفاء لآثار نبيه الكريم، إذ باسمه الشريف يتبرك في مبادئ الأمور، وبسره تنال الأماني وتنشرح الصدور، ثم أردفه بقوله: (الحمد لله) إذ ما من خير من خيور الدنيا والآخرة إلا وهو موليه، فالحمد في الحقيقة كله له وهو رأس الشكر لكونه أدل على مكان النعم، لخفاء الاعتقاد، فمن لم يحمده لم يشكره، وما بكم من نعمة فمن الله (الذي أحسن تدبير الكائنات) أي: المخلوقات الكونية، وأصل الكون حصول الصورة في المادة بعد أن لم تكن وهو مرادف للوجود المطلق العام وتدبيرها النظر في عواقبها بما يصلحها مما يفسدها، والمراد بإحسانه هذا إعطاؤها ما يليق لها وبها، وإليه يشير قوله تعالى في مقام المنة: أعطى كل شيء خلقه ثم هدى (فخلق الأرض) متوسطة بين الصلابة والرخاوة حتى صارت متهيأة كالفراش المبسوط (والسماوات) كالقبة المضروبة عليها، والأرض هو الجرم المقابل للسماء الجامع لنبات كل نابت ظاهرا وباطنا، فالظاهر كالمواليد وكل ما الماء أصله، والباطن كالأعمال والأخلاق، وجمعها أرضون، ولم تجمع في القرآن، ولذلك آثر صيغة الإفراد، (وأنزل الماء الفرات) أي: العذب يقال: فرت الماء فروتة كسهل سهولة، إذا عذب، ولا يجمع إلا نادرا على فرتان كغراب وغربان (من المعصرات) أي: من السحائب من أعصرت الجارية إذا دنت أن تحيض، أو من الرياح التي حان لها أن تعصر السحاب، أو هي الرياح ذوات الأعاصير، وإنما جعلت مبدأ للإنزال لأنها تنشئ السحاب وتدر أخلافه. في الجملة إشارة إلى آيتين:
الثانية: قوله تعالى: وأنزلنا من المعصرات ماء ثجاجا أي: منصبا بكثرة، والفرات بالمعنى المذكور يرسم هكذا بالتاء المطولة، وأما بمعنى النهر المشهور فيرسم بالوجهين، وفي الآية الأولى دليل على أن سقى وأسقى يستعملان في الخير خلافا لمن ادعى أن سقى للخير وأسقى في الشر، (فأنشأ الحب والنبات) الحب اسم لتمام النبات المنتهي إلى صلاحية كونه طعاما للآدمي، الذي هو أتم خلقه، والنبات هو ما يخرج من الأرض من الناميات سواء كان له ساق كالشجر أم لا كالنجم، لكن خص عرفا بما لا ساق له بل خص عند العامة بما يأكله الحيوان، ومن يعتبر الحقائق فإنه يستعمله في كل نام نباتا وحيوانا (وقدر الأرزاق والأقوات) ، وهو من باب عطف الخاص على العام. إذ الأرزاق جمع رزق بالكسر وهو ما يسوقه الله إلى الحيوان للتغذي، أي: ما به قوام الجسم ونماؤه، والأقوات جمع قوت بالضم هو ما يمسك الرمق. والرزق على قسمين: ظاهر وهي الأقوات والأطعمة وذلك للظواهر، وهي الأبدان. وباطن: وهي المعارف والمكاشفات، وذلك للقلوب والأسرار، والله تعالى هو المتولي بتقدير الرزقين، فالأرزاق تتناول الأقوات وغيرها، وتقدير كل منها بقدرة الله ومشيئته. ولكن جعل الماء الممزوج بالتراب سببا في إخراجها كالنطفة للحيوان، بأن أجرى عادته بإفاضة صورها وكيفياتها على المادة الممتزجة منها أو أبدع في الماء قوة فاعلية، وفي الأرض قوة قابلية، فتولد من اجتماعهما أنواع الرزق والأقوات، وهو قادر على أن يوجد الأشياء كلها بلا أسباب ومواد، كما أبدع نفوس الأسباب والمواد، ولكن له في إنشائها مدرجا من حال إلى حال، صنائع وحكم يجدد فيها لأولي الأبصار عبرا وسكونا إلى عظيم قدرته ما ليس ذلك في إيجادها دفعة واحدة، وإليه الإشارة بقوله تعالى: الذي جعل لكم الأرض فراشا والسماء بناء وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم وفي الجملة إشارة إلى قوله تعالى: وقدر فيها أقواتها .
(وحفظ بالمأكولات قوى الحيوانات) وهي من الأمور الطبيعية، اعلم أنه لما وجدت أفعال تصدر من البدن بعضها إرادي كالقيام والقعود، وبعضها غير إرادي كحركة القلب للترويح وتوليد الكبد [ ص: 210 ] للدم، فلا محالة أن في كل عضو معنى هو الذي يقوم بذلك الفعل، وهو المعنى بالقوة، فالقوة هيئة في الجسم الحيواني، بها قوي على أن يفعل أفعاله بالذات، وهي ثلاثة أجناس: إحداها: القوى الطبيعية، والثانية: القوى النفسانية، والثالثة: القوى الحيوانية. وهذا القسم الأخير هي القوة التي حصلت في الأعضاء هيأتها لقبول الحس والحركة، وبالجملة تفيد الحياة، والأفعال المنسوبة إلى الحي فهي مبدأ لحركة القلب والشرايين ولحركة الجوهر الروحي اللطيف إلى الأعضاء، والقوى النفسانية لا تحدث في الروح والأعضاء إلا بعد حدوث هذه القوة، بخلاف القوى الطبيعية، فإنها توجد في النبات، وإن تعطل عضو من القوى النفسانية ولم يتعطل من هذه القوى، فهو حي، ألا يرى أن العضو الخدر والمفلوج فاقدان لقوة الحس والحركة، وهو مع ذلك حي، وإلا لفسد وعفن، فإذا فيه قوة تحفظ حياته، وليس هذه القوة قوة التغذية وغيرها، وإلا لكان النبات مستعدا لقبول الحس والحركة (وأعان على الطاعات) جمع طاعة، وهي كل ما فيه رضا وتقرب إلى الله تعالى، وهي عندنا موافقة الأمر، وعند المعتزلة موافقة الإرادة (والأعمال الصالحات) والعمل الصالح هو المراعى من العلم، وأصله الإخلاص في النية، وبلوغ الوسع في المحاولة، بحسب علم العامل وأحكامه (بأكل الطيبات) وهي الحلال من المأكولات فهو مما يعين على حسن الطاعة وسلوك سبيل العمل الصالح، وفي الخبر: " nindex.php?page=hadith&LINKID=944623أطب طعمتك تستجب دعوتك".
(والصلاة على) سيدنا (محمد ذي المعجزات الباهرات) أي: الظاهرات ظهور القمر على سائر الكواكب، ولذا قيل للقمر: الباهر، وقيل: معناه الغالبات أو الفاضلات، وهذه المعاني متقاربة، والمعجزة أمر خارق للعادة يدعو إلى الخير والسعادة، مقرون بالتحدي قصد به إظهار صدق مدعي الرسالة، وقد تقدم ما يتعلق بها في آخر كتاب العقائد (وعلى آله) هو من يؤول إليه بالقرابة القريبة (وأصحابه) من تشرف بمشاهدته وصحبته ولو لحظة (صلاة تتوالى) أي: تتكرر (على ممر من الأوقات) على مرورها وقتا بعد وقت، (وتتضاعف) أي: تزيد ضعفا (بتعاقب الساعات) وهي أجزاء الزمان وتعاقبها بأن يأتي بعضها عقب بعض (وسلم) تسليما (كثيرا) كثيرا .