وهو ثلاثة أقسام : قسم قبل الأكل ، وقسم مع الأكل ، وقسم بعد الفراغ منه .
(الباب الأول: فيما لا بد للمنفرد منه)
(وهي ثلاثة أقسام: قسم قبل الأكل، وقسم مع الأكل، وقسم بعد الفراغ منه) . ولنقدم قبل الخوض في المقصود بمقدمة في ذكر الطعام وما فيه من المصلحة والمفسدة. فاعلم أن المريد السالك بحسن نيته، وصحة مقصده، ونور علمه، وإتيانه بآدابه تصير عاداته عبادة، فإنما هو وقته لله تعالى ويريد حياته لله تعالى، فتدخل عليه أمور العادة لموضع حاجته وضرورة بشريته، وتحف بعاداته أنوار يقظته وحسن نيته، فتنور العادات وتشكل بالعبادات، ولهذا ورد " نوم الصائم عبادة، ونفسه تسبيح، وصمته حكمة" هذا مع كون النوم عين الغفلة، ولكن كل ما يستعان به على العبادة يكون عبادة، فتناول الطعام أصل كبير يحتاج إلى علوم كثيرة لاشتماله على المصالح الدينية والدنيوية، وتعلق أثره بالقلب والقالب، وبه قوام البدن بإحياء سنة الله تعالى بذلك، والقالب مركب القلب وبهما عمارة الدنيا والآخرة. وقد ورد " أرض الجنة قيعان نباتها التسبيح والتقديس " والقالب بمفرده على طبيعة الحيوانات يستعان به على عمارة الدنيا، والروح والقلب من طبيعة الملائكة يستعان بهما على عمارة الآخرة، وباجتماعهما صلحا لعمارة الدارين، والله تعالى ركب الآدمي بلطيف حكمته من أخص جواهر الجسمانيات والروحانيات، وجعله مستودع خلاص الأرضين والسماوات، وجعل عالم الشهادة وما فيها لقوام بدن الآدمي، فكون الطبائع وهي الحرارة والرطوبة والبرودة واليبوسة، وكون بواسطتها النبات، وجعل النبات قواما للحيوانات، وجعل الحيوانات مسخرات للآدمي يستعين بها على أمر معاشه لقوام بدنه، فالطعام يصل إلى المعدة، وفي المعدة طبائع أربع، وفي الطعام طبائع أربع. فإذا أراد الله تعالى اعتدال مزاج البدن أخذ كل طبع من طباع المعدة ضده من طبائع الطعام، فتأخذ الحرارة البرودة، والرطوبة اليبوسة فيعتدل المزاج ويأمن الاعوجاج، وإذا أراد الله إفناء قالب وتخريب بنية أخذت كل طبيعة جنسها من المأكول، فتميل الطبائع ويضطرب المزاج ويسقم البدن، ذلك تقدير العزيز العليم .
روي عن nindex.php?page=showalam&ids=17285وهب بن منبه قال: وجدت في التوراة صفة آدم عليه السلام إني خلقت آدم ركبت جسده من أربعة أشياء: من رطب ويابس وبارد وسخن، وذلك لأني خلقته من التراب وهو يابس، ورطوبته من الماء وحرارته من قبيل النفس، وبرودته من قبيل الروح، وخلقت في الجسد بعد هذا الخلق الأول أربعة أنواع من الخلق هي ملاك الجسم بإذني، وبهن قوامه، فلا يقوم الجسم إلا بهن، ولا تقوم منهن واحدة إلا بالأخرى منهن: المرة السوداء، والمرة الصفراء، والبلغم، والدم. ثم أسكنت بعض هذا الخلق في بعض، فجعلت مسكن اليبوسة في المرة السوداء، ومسكن الرطوبة في المرة الصفراء، ومسكن الحرارة في الدم، ومسكن البرودة في البلغم، فأيما جسد اعتدلت طبيعته اعتدلت فيه الفطر الأربع التي جعلتها ملاكه وقوامه، فكانت كل واحدة منهن ربعا لا تزيد ولا تنقص كملت صحته واعتدلت بنيته، فإن زادت منهن واحدة عليهن هزمتهن ومالت بهن، ودخل عليه السقم من ناحيتها بقدر [ ص: 212 ] غلبتها حتى تضعف عن طاقتهن، وتعجز عن مقدارهن. رواه صاحب الحلية من طريق عبد المنعم بن إدريس عن أبيه عن وهب.
وكما أن للمعدة طبائع تتدبر بموافقة طباع الطعام، فللقلب أيضا مزاج وطباع لأرباب التفقد والرعاية واليقظة يعرف انحراف القلب من اللقمة المتناولة. تارة يحدث في القلب من اللقمة حرارة الطيش بالنهوض إلى الفضول، وتارة تحدث في القلب برودة الكسل بالتقاعد عن وظيفة الوقت، وتارة تحدث رطوبة السهو والغفلة، وتارة يبوسة الهم والحزن بسبب الحظوظ العاجلة. فهذه كلها عوراض يتفطن لها المتيقظ، ويرى بعين البصيرة تغير القلب بهذه العوارض تغير مزاج القلب عن الاعتدال، والاعتدال هو مهم للقالب، فللقلب أهم وأولى وتصرف الانحراف إلى القلب أسرع منه إلى القالب ومن الانحراف ما يسقم به القلب فيموت كموت القالب، واسم الله تعالى دواء نافع مجرب يقي الأسواء ويذهب الداء ويجلب الشفاء، والله أعلم .