وما يقال إنه أبدع بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم فليس كل ما أبدع منهيا بل المنهي بدعة تضاد سنة ثابتة وترفع ، أمرا من الشرع مع بقاء علته بل الإبداع قد يجب في بعض الأحوال إذا تغيرت الأسباب وليس في المائدة إلا رفع الطعام عن الأرض لتيسير الأكل وأمثال ذلك مما لا كراهة فيه .
والأربع التي جمعت في أنها مبدعة ليست متساوية بل الأشنان حسن لما فيه من النظافة فإن الغسل مستحب للنظافة والأشنان أتم في التنظيف وكانوا لا يستعملونه لأنه ربما كان لا يعتاد عندهم أو لا يتيسر أو كانوا مشغولين بأمور أهم من المبالغة في النظافة فقد كانوا لا يغسلون اليد أيضا وكانت مناديلهم أخمص أقدامهم وذلك لا يمنع كون الغسل مستحبا .
وأما المنخل فالمقصود منه تطييب الطعام ، وذلك مباح ما لم ينته إلى التنعم المفرط .
وأما المائدة فتيسير للأكل وهو أيضا مباح ما لم ينته إلى الكبر والتعاظم .
وأما الشبع فهو أشد هذه الأربعة فإنه يدعو إلى تهييج الشهوات وتحريك الأدواء في البدن فلتدرك التفرقة بين هذه المبدعات .
الرابع : أن يحسن الجلسة على السفرة في أول جلوسه ويستديمها كذلك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ربما جثا للأكل على ركبتيه ، وجلس على ظهر قدميه ، وربما نصب رجله اليمنى وجلس على اليسرى .
(واعلم أنا وإن قلنا أن الأكل على السفرة أولى) لموافقته بالسنة (فلسنا نقول: الأكل على المائدة منهي عنه نهي كراهة أو تحريم) والمراد بالكراهة هنا كراهة التنزيه بدليل قوله: أو تحريم، وهي إذا أطلقت تنصرف إلى التحريم كما حققه ابن القيم في " إعلام الموقعين "، واستدل بأقوال الأئمة من المذاهب الأربعة (إذ لم يثبت فيه منهي) صريح، (وما يقال أنه أبدع) أي: أحدث (بعد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فليس كل ما أبدع منهيا) مطلقا، (بل المنهي بدعة تضاد سنة ثابتة، وتدفع أمرا من الشرع مع بقاء علته) ، وأما ما شهد لجنسه أصل في الشرع إن اقتضته مصلحة تندفع به مفسدة، فإنه يسمى بدعة إلا أنها مباحة، (بل الإبداع قد يجب في بعض الأحوال) لاقتضاء مصلحة (إذا تغيرت الأسباب) والعلل (و) لا يخفى أنه (ليس في) استعمال (المائدة إلا رفع الطعام عن الأرض لتيسير الأكل) وتسهيله عند تناوله، (وأمثال ذلك مما لا كراهة فيه، والأربع التي جمعت في أنها بدعة ليست متساوية) في الحكم (بل الأشنان أتم في التنظيف) وإزالة الدسومات، (وكانوا) فيما سلف (لا يستعملونه) في غسل أيديهم، (لأنه ربما كان لا يعتاد عندهم) أي: لم تكن عادة لهم بذلك (أو لا يتيسر) تحصيله (وكانوا مشغولين بأمور) دينية هي (أهم من المبالغة في النظافة) والتشدد فيها، (فقد كانوا لا يغسلون اليد أيضا) كما عرف من سيرتهم، (وكان منادلهم أخص أقدامهم) أو يتمسحون بالحصى كما ذكر عن أصحاب الصفة، وتقدم جميع ذلك في كتاب سر الطهارة (وذلك لا يمنع كون الغسل) بالماء (مستحبا) ، وهذا ظاهر .
(وأما المنخل فالمقصود منه) نخل الدقيق وأخذ الخلاصة منه، وفيه (تطبيب الطعام، وذلك مباح) شرعا (ما لم ينته إلى الكبر والتعاظم) فحينئذ ينهى عنه .
(وأما الشبع فهو أشد هذه الأربع) في الانتهاء عنه، (فإنه يدعو إلى تهييج الشهوات) الباطنة (وتحريك الأدواء في البدن) من سوء طبيعة وفساد مزاج وثقل وهيضة ودوار وغير ذلك. (فليدرك) المتأمل (التفرقة بين هذه المبدعات) الأربعة (فإنها ليست على وتيرة واحدة) ، وإنما تختلف أحكامها باختلاف الأسباب والعلل .
قال nindex.php?page=showalam&ids=16867مالك رحمه الله: هو نوع من الاتكاء. قال بعض المتأخرين: هنا في هذا إشارة من nindex.php?page=showalam&ids=16867مالك إلى كراهة كل ما يعد الآكل فيه متكئا ولا يختص بصفة بعينها، واختلفوا في حكم الاتكاء في الأكل فقال nindex.php?page=showalam&ids=12847ابن القاص: كراهته من خصائصه -صلى الله عليه وسلم-. وقال غيره: يكره أيضا لغيره إلا لضرورة، وعليه يحمل ما ورد عن جمع من السلف وتعقب الحمل المذكور بأن nindex.php?page=showalam&ids=12508ابن أبي شيبة أخرج عن جمع منهم الجواز مطلقا، لكن يؤيد الأول ما أخرجه nindex.php?page=showalam&ids=12508ابن أبي شيبة أيضا عن النخعي: كانوا يكرهون أن يأكلوا تكاة مخافة أن تعظم بطونهم، وإن ثبت كون الاتكاء مكروها أو خلاف الأولى، فالسنة أن يجلس جاثيا على ركبتيه وظهور قدميه، أو ينصب رجله اليمنى ويجلس على اليسرى .
قال ابن القيم: ويذكر عنه -صلى الله عليه وسلم- أنه كان يجلس للأكل متوركا على ركبتيه، ويضع بطن قدمه اليسرى على ظهر اليمنى تواضعا لله عز وجل وأدبا بين يديه، قال: وهذه الهيئة أنفع الهيئات للأكل وأفضلها، لأن الأعضاء كلها تكون على وضعها الطبيعي الذي خلقها الله تعالى عليه .
وأما حديث nindex.php?page=showalam&ids=9أنس: "رأيته يأكل وهو مقع من الجوع" فقد أخرجه nindex.php?page=showalam&ids=13948الترمذي أيضا في الشمائل، ومعناه أي: جالس على أليتيه ناصب ساقيه، هذا هو الإقعاء المكروه في الصلاة، وإنما لم يكره هنا لأنه ثم تشبه بالكلاب، وهنا تشبه بالأرقاء، ففيه غاية التواضع، ولهم إقعاء ثان لكنه مسنون في الجلوس بين السجدتين، لأنه صح عنه - صلى الله عليه وسلم- أنه فعله فيه، وهو أن ينصب ساقيه ويجلس على عقبيه. قيل: وهذا هو المراد هنا، والأصح الأول; لأن هيئته تدل على أنه -صلى الله عليه وسلم- غير متكلف ولا يعتني بشأن الأكل. وفي القاموس: أقعى في جلوسه تساند إلى ما وراءه، وهذا يشعر بمزيد الرغبة عن الأكل المناسب لحاله -صلى الله عليه وسلم-، وحينئذ فمعنى: وهو مقع من الجوع أي: مستند إلى ما وراءه من الضعف الحاصل له بسبب الجوع، وبما قررته يعلم أن الاستناد ليس من مندوبات الأكل; لأنه -صلى الله عليه وسلم- لم يفعله إلا لذلك الضعف الحاصل له -صلى الله عليه وسلم-. وقوله: كان يقول: nindex.php?page=hadith&LINKID=654979 "لا آكل متكئا" رواه nindex.php?page=showalam&ids=12070البخاري nindex.php?page=showalam&ids=13948والترمذي في الشمائل من حديث أبي جحيفة. وقوله: " إنما أنا عبد... " إلخ تقدم من قبله من حديث nindex.php?page=showalam&ids=9أنس بلفظ: " وافعل " بدل " اجلس " ورواه nindex.php?page=showalam&ids=13863البزار من حديث nindex.php?page=showalam&ids=12ابن عمر دون قوله: واجلس. ورواه nindex.php?page=showalam&ids=12251أحمد في الزهد من حديث nindex.php?page=showalam&ids=16568عطاء بن أبي رباح. ومن حديث الحسن بجملته مرسلا .