اعلم أن الناس اختلفوا في حد العقل وحقيقته وذهل الأكثرون عن كون هذا الاسم مطلقا على معان مختلفة فصار ذلك سبب اختلافهم .
والحق الكاشف للغطاء فيه أن العقل اسم يطلق بالاشتراك على أربعة معان كما يطلق اسم العين مثلا على معان عدة وما يجري هذا المجرى فلا ينبغي أن يطلب لجميع أقسامه حد واحد بل يفرد كل قسم بالكشف عنه .
فالأول الوصف الذي يفارق الإنسان به سائر البهائم ، وهو الذي استعد به لقبول العلوم النظرية ، وتدبير الصناعات الخفية الفكرية وهو الذي أراده الحارث بن أسد المحاسبي حيث قال في حد العقل إنه غريزة يتهيأ بها إدراك العلوم النظرية ، وكأنه نور يقذف في القلب به يستعد لإدراك الأشياء
(بيان حقيقة العقل وأقسامه) حقيقة الشيء ما به الشيء هو هو كالحيوان الناطق للإنسان، بخلاف نحو الضاحك، والكاتب مما يتصور الإنسان بدونه، وقد يقال: إن ما به الشيء هو هو باعتبار تحققه حقيقة، وباعتبار تشخصه هوية ومع قطع النظر عن ذلك ماهية، (اعلم أن الناس اختلفوا في حد العقل وحقيقته) على أقوال شتى (وذهل الأكثرون) أي غفلوا (عن علم هذا الاسم) ومعرفته (لكونه يطلق على معان مختلفة فصار ذلك سبب اختلافهم) فيه، ولم يقتصروا على الخلاف في حقيقته فقط، بل اختلفوا فيه من جهات هل له حقيقة تدرك أو لا؟ قولان، وعلى أن له حقيقة هل هو جوهر أو عرض؟ قولان، وهل محله الرأس والقلب؟ قولان، وهل العقول متفاوتة أو متساوية قولان، وهل هو اسم جنس أو جنس أو نوع؟ ثلاثة أقوال، فهي أحد عشر قولا، ثم القائلون بالجوهرية، أو العرضية اختلفوا في اسمه، على أقوال أعدلها قولان، فعلى أنه عرض هو ملكة للنفس تستعد بها للعلوم والإدراكات وعلى أنه جوهر هو جوهر لطيف تدرك به الغائبات بالوسائط والمحسوسات بالمشاهدات، خلقه الله في الدماغ، وجعل نوره في القلب، نقله الأبشيطي.
وأما الاختلاف في حده وحقيقته فالعقل العلم، وعليه اقتصر كثيرون، وفي الصحاح: والعباب هو الحجر والنهية، وفي المحكم ضد الحمق، أو هو علم بصفات الأشياء من حسنها وقبحها وكمالها ونقصانها، أو هو علم بخير الخيرين وشر الشرين أو مطلق الأمور أو لقوة يكون بها التمييز بين القبح والحسن، ولمعان مجتمعة في الذهن، يكون بمقدمات يستتب بها الأغراض والمصالح، ولهيئة محمودة في الإنسان، في حركاته وكلامه، إلى غير ذلك، من الحدود والتعاريف، (والحق الكاشف للغطاء) أي الحجاب (فيه) أي في هذا البحث (إن العقل اسم ينطلق بالاشتراك على أربعة معان مختلفة كما يطلق اسم العين) بالوضع الكبير (مثلا على معان عدة) أي كثيرة ومعنى الكثرة ما يقابل [ ص: 459 ] الوحدة لا ما يقابل القلة، (وما يجري هذا المجرى فلا ينبغي أن يطلب لجميع أقسامه حد واحد) يجمعه، (بل يفرد كل قسم) من أقسامه (بالكشف عنه،) والبحث فيه، (فالأول من معانيه) هو (الوصف الذي يفارق الإنسان) ، ويتميز به (عن سائر البهائم، وهو الذي استعد به لقبول العلوم النظرية، وتدبير الصناعات الخفية الفكرية) ، أي الخفية المدرك الدقيقة التي تحتاج إلى إعمال الفكر، (وهو الذي أراده) أي عنى به الإمام أبو عبد الله الحارث بن أسد (المحاسبي) رحمه الله تعالى، وقد تقدمت ترجمته في أول الكتاب، (حيث قال) في كتابه الرعاية (في حد العقل أنه غريزة يتهيأ به إدراك العلوم النظرية، وكأنه نور يقذف في القلب به يستعد لإدراك الأشياء) ، وأخرج ابن السبكي في طبقاته في ترجمة الحارث المذكور من رواية أبي سعد الماليني، قال: أخبرنا أبو محمد عبد الله بن محمد النسائي، أخبرنا أبو عبد الله محمد بن عبد الله الملطي، أخبرنا محمد بن أحمد بن أبي شيخ، قال: قال لي أحمد بن حسن الأنصاري: سألت nindex.php?page=showalam&ids=15166الحارث المحاسبي عن العقل، فقال: نور الغريزة، مع التجارب يزيد، ويقوى بالعلم والحلم .
قال ابن السبكي: هذا الذي قاله الحارث في العقل قريب مما نقل عنه أنه غريزة، يتأتى بها درك العلوم .
وقال nindex.php?page=showalam&ids=12441إمام الحرمين في البرهان: عند الكلام في معرفة العقل وما حوم عليه أحد من علمائنا غير الحارث المحاسبي; فإنه قال: العقل غريزة يتأتى بها درك العلوم، وليست منها اهـ .
وقد ارتضى الإمام كلام الحارث هذا، كما ترى، وقال عقبة: إنه صفة إذا ثبتت يتأتى بها التوصل إلى العلوم النظرية ومقدماتها من الضروريات التي هي مستند النظريات اهـ .
قال ابن السبكي: وهو منه بناء على أن العقل ليس بعلم، والمفرد إلى الشيخ nindex.php?page=showalam&ids=13711أبي الحسن الأشعري، أنه العلم، وقال القاضي أبو بكر: إنه بعض العلوم الضرورية، والإمام حكى في الشامل مقالة الحارث هذه التي استحسنها، وقال: أنا لا أرضاها ونتهم فيها النقلة عنه، ثم قال: ولو صح النقل عنه فمعناه أن العقل ليس بمعرفة الله تعالى، وهذا إذا أطلق المعرفة، أراد بها معرفة الله تعالى فكأنه قال: ليس العقل بنفسه معرفة الله تعالى، ولكنه غريزة، وعنى بالغريزة أنه عالم لأمر جبل الله عليه العاقل ويتوصل به إلى معرفة الله تعالى اهـ كلامه في الشامل قال ابن السبكي: والمنقول عن الحارث ثابت عنه، وقد نص عليه في كتاب الرعاية، وكان nindex.php?page=showalam&ids=12441إمام الحرمين نقل كلام الحارث بعد ذلك ثم لاحت له صحة ذلك بعد ما كان لا يرضاه اهـ سياق ابن السبكي.
قلت: واختلف كلام nindex.php?page=showalam&ids=12441إمام الحرمين في كتابه الإرشاد، فنقل شيخنا عن ابن مرزوق قال: قال الإمام في الإرشاد: العقل هو علوم ضرورية بها يتميز العاقل عن غيره إذا اتصف، وهي العلم بوجوب الواجبات واستحالة المستحيلات، وجوازا لجائزات قال: وهو تفسير العقل الذي هو شرط في التكليف، ولسنا نذكر تفسيره بغير هذا وهو عند غيرها من الهيئات والكيفيات الراسخة من مقولة الكيف، فهو صفة راسخة توجب لمن قامت به إدراك المدركات على ما هي عليه ما لم يتصف بضدها اهـ .
وقال في موضع آخر من كتابه: العقل علوم ضرورية، والدليل على أنه من العلوم الضرورية استحالة الاتصاف به مع تقدير الخلو من جميع العلوم وليس العقل من العلوم النظرية إذ شرط النظر تعذر العقل، وليس العقل جميع العلوم الضرورية، فإن الضرير ومن لا يدرك يتصف بالعقل مع انتفاء علوم ضرورية عنه، فبان بهذا أن العقل من العلوم الضرورية، وليس كلها اهـ .