وهو الكتاب الثاني من ربع العادات من كتاب إحياء علوم الدين .
بسم الله الرحمن الرحيم .
الحمد لله الذي لا تصادف سهام الأوهام في عجائب صنعه مجرى ولا ترجع العقول عن أوائل بدائعها إلا والهة حيرى ولا تزال لطائف نعمه على العالمين تترى فهي تتوالى عليهم اختيارا وقهرا .
ومن بدائع ألطافه أن خلق من الماء بشرا فجعله نسبا وصهرا وسلط على الخلق شهوة اضطرهم بها الحراثة جبرا واستبقى بهم نسلهم إقهارا وقسرا .
ثم عظم أمر الأنساب وجعل لها قدرا فحرم بسببها السفاح وبالغ في تقبيحه ردعا وزجرا وجعل اقتحامه جريمة فاحشة وأمر أمرا
(بسم الله الرحمن الرحيم .
الله ناصر كل صابر، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم) الحمد لله ذي الجلال الأكبر والبهاء الأنور، عز من علا فغلب وقهر، أحصى قطر المطر وأوراق الشجر، وما في الأرحام من أنثى وذكر. خالق الخلق على حسن الصور، ورازقهم على قدر، ومميتهم على صغر وشباب وكبر، أحمده حمدا يوافي إنعامه ويكافئ مزيد كرمه الأوفر، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة من أناب وأبصر، وراقب ربه واستغفر، وأشهد أن سيدنا ومولانا محمدا عبده ورسوله وحبيبه [ ص: 281 ] وخليله الطاهر المطهر، المختار من فهر ومضر، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وذويه ما أقبل ليل وأدبر، وأضاء صبح وأسفر، وسلم تسليما كثيرا كثيرا .
أما بعد فهذا شرح (كتاب آداب النكاح) وهو الثاني من الربع الثاني من كتب الإحياء للإمام الهمام حجة الإسلام أبي حامد، الذي غدت فرائد فضائله شنفا وأقراطا في آذان الخاص والعام، وملأ ذكر كمالاته الخافقين في مسامع الأعلام، وقام صيت كتابه مقام الشمس في رابعة النهار وعنت وجوه الأفاضل إليه من سائر الأقطار، سقى الله جدثه شآبيب الغفران، وأمتع بفوائد كتابه أذهان أهل العرفان، أقدمت على الكشف عن مضاربه والبحث عن مطالبه، فسروت عن وجهها نقاب الخفا، وحليت جيد معارفها شنف التحقيق الموفى، مراعيا حسن السياق والسباق، محافظا مواضع عزوه لدى الاختلاف والاتفاق، متجنبا عن الإسهاب والتطويل مرتقيا ذروة التوسط في إيراد ما عليه التعويل عند أرباب التحصيل، فهو بحمد الله تعالى شرح يشرح صدور الأحباب، ويفتح لمجيء جنابه من تلك المطالب الأبواب، تشرق بأنوار أفئدة المتقين كما تشرق ببواتر سهامه بواطن الحسدة الملاعين، وإلى الله الكريم التضرع متوعلا، بمصنفه في كشف ما بي، وتفريج كروبي وأوصابي، وحل عقدة أوصالي وأشكالي ومما رجوته من أماني وآمالي. إنه هو اللطيف الخبير العلي الكبير الولي النصير الهادي الخبير العليم القدير، لا إله سواه ولا نعبد إلا إياه، وشح المصنف صدر كتابه بالبسملة، فأردفها بالحمدلة فقال:
(بسم الله الرحمن الرحيم) عملا بالحديثين واكتفاء بطريقة السلف في اختيار أكمل الأمرين، وللمصنفين في مبادئ كتبهم طرائق سبعة قد تقدم ذكرها في أول كتاب العلم، وذكر شيء من مباحثها مفرقا في صدور الكتب التي تقدمت فأغنى عن إيراده ثانيا .
ثم قال (الحمد لله) الحمد نقيض الذم هو أعم من الشكر، وقد يوضع أحدهما مقام الثاني لما في الخبر " الحمد رأس الشكر "، فصدرالحمد خاص ومتعلقه عام، الشكر بخلافه وهذا معرف باللام فيفيد أصل الماهية وذلك يمنع ثبوته لغيره تعالى، فجميع أقسام الحمد والثناء والتعظيم ليس إلا له تعالى، فهو المحمود في الحقيقة وهو المشكور، وما حصل من الإحسان من العبد يتوقف على حصول داعيته في قلبه، وهو من الله تعالى لا غير، وإلا لافتقر إلى داعية أخرى فيتسلسل وهو باطل، فهو المحسن في الحقيقة والمستحق له، والله علم دال على الإله الحق دلالة جامعة لجميع معاني الأسماء الحسنى الإلهية أحدية لجمعه جميع الحقائق الوجودية، (الذي لا تصادف) أي: لا تجد ولا تأتي ولا توافق (سهام الأوهام) جمع وهم بالسكون وهو سبق القلب إلى الشيء مع إرادة غيره (في عجائب صنعته) وهي عمل الصانع، والمراد مصنوعاته العجيبة (مجرى) أي: منفذا (ولا ترجع العقول) المستعدة لإدراك المعقولات (من أوائل) جمع أول وأصله أوأل أفعل من آل يؤل إذا سبق وقيل: أوول فوعل وفيه كلام أودعته في شرح القاموس (بدائعها) جمع بديعة وهي المنفردة من بين النظائر، والضمير يعود إلى عجائب الصنعة (إلا والهة) ذاهبة الإدراك مع كمال ملكة استحضارها (حيرى) أي: متحيرة وهي فعلى من الحيرة، وهي حالة الحيران الذي لا يهتدي إلى الصواب لإشكال الأمر عليه، (ولا تزال لطائف نعمه) المعقولة على جهة الإحسان (على العالمين) بأسرهم (تترى) أي: متتابعة وترا بعد وتر (فهي تتوالى) أي: تتكرر (عليهم) اختيارا (وقهرا) شاءوا أم أبوا، (ومن رائع ألطافه) أي: من ألطافه البديعة الغريبة واللطف بالضم الرفق (أن خلق من الماء) أي: ماء بني آدم وهي النطفة (بشرا) عبر عن الإنسان به اعتبارا بظهور بشرته أي جلده من الشعر بخلاف الحيوان الذي عليه نحو صوف وشعر (فجعله نسبا وصهرا) النسب إدراك من جهة أحد الأبوين والصهر القرابة، وفي هذه اللفظة اختلاف عند أهل اللغة فقال الخليل: الصهر أهل بيت المرأة. قال: ومن العرب من يجعل الأحماء والأختان جميعا أصهارا .
قال nindex.php?page=showalam&ids=12758ابن السكيت: كل من كان من قبل الزوج من أبيه أو أخته أو عمه فهم الأحماء، ومن كان من قبل المرأة فهم الأختان، ويجمع الصنفين الأصهار. وقال بعض أئمة الغريب: النسب ما يرجع إلى ولادة قريبة من جهة الآباء، والصهر ما كان من [ ص: 282 ] خلطة تشبه القرابة يحدثها التزويج .
وقال العراقي : تفسيره للآية أما النسب فهو النسب يحل نكاحه كبنات العم والخال وأشباههن من القرابة التي يحل تزويجها. وقال nindex.php?page=showalam&ids=14416الزجاج: الأصهار من النسب لا يجوز لهم التزويج، والنسب الذي ليس بصهر من قوله: حرمت عليكم أمهاتكم إلى قوله: وأن تجمعوا بين الأختين قال الأزهري في التهذيب: وقد روينا عن nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس في تفسير النسب والصهر خلاف ما قال الفراء جملة، وخلاف بعض ما قال nindex.php?page=showalam&ids=14416الزجاج.
(وسلط على الخلق شهوة) وهي نزوع النفس إلى محبوب لا يتمالك عنه (اضطره بها إلى الحراثة) بالكسر إلقاء البذر في الأرض وتنبيته للزرع، وكني به هنا عن النكاح (جبرا) أي: قهرا (واستبقى بها) أي: بتلك الحراثة (نسلهم) أي: ذريتهم (اقتهارا وقسرا) أي: قهرا وغلبة فهو عطف مرادف، (ثم عظم) أمر (الأنساب) بينهم (وجعل لها قدرا) أي: منزلة. فروى nindex.php?page=showalam&ids=12251أحمد nindex.php?page=showalam&ids=13948والترمذي nindex.php?page=showalam&ids=14070والحاكم من حديث nindex.php?page=showalam&ids=3أبي هريرة رفعه: nindex.php?page=hadith&LINKID=664272 " من أنسابكم ما تصلون به أرحامكم فإن صلة الرحم محبة في الأهل مثراة في المال منسأة في الأثر " (فحرم بسببها السفاح) وهو اسم من سافح الرجل المرأة إذا زاناها، سمي الزنا لأن الماء يسفح أي يصب ضائعا، ومنه في النكاح غنية عن السفاح، (وبالغ في تقبيحه) أي: ذمه وتعييبه (ردعا وزجرا) أي: منعا بتهديد، (وجعل اقتحامه) أي ارتكابه والدخول فيه (جريمة) وهي اكتساب الإثم (فاحشة) توجب الحد في الدنيا والعذاب في العقبى، (وأمرا إمرا) الأول بفتح الهمزة والثاني بكسرها أي: أمرا عظيما، وفيه الجناس، وأشار بهذه الجملة إلى: ولا تقربوا الزنا إنه كان فاحشة ومقتا: وساء سبيلا .