الأول التقسيم الذي حصرناه وأبطلنا منه أربعة ، وأثبتنا القسم الخامس ، فإن ذلك إذا أجري فيما إذا كان الكل حراما كان أحرى فيما إذا كان الحرام هو الأكثر أو الأقل وقول القائل هو مصلحة مرسلة هوس فإن ذلك إنما تخيل من تخيله في أمور مظنونة وهذا مقطوع به فإنا لا نشك في أن مصلحة الدين والدنيا مراد الشرع وهو معلوم بالضرورة ، وليس بمظنون ، ولا شك في أن رد كافة الناس إلى قدر الضرورة أو الحاجة أو الحشيش والصيد مخرب للدنيا أولا وللدين بواسطة الدنيا ثانيا ، فما لا يشك فيه لا يحتاج إلى أصل يشهد له ، وإنما يستشهد على الخيالات المظنونة المتعلقة بآحاد الأشخاص .
. البرهان الثاني : أن يعلل بقياس محرر مردود إلى أصل يتفق الفقهاء الآنسون بالأقيسة الجزئية عليه وإن كانت الجزئيات مستحقرة عند المحصلين بالإضافة إلى مثل ما ذكرناه من الأمر الكلي الذي هو ضرورة النبي لو بعث في زمان عم التحريم فيه ، حتى لو حكم بغيره لخرب العالم والقياس المحرر الجزئي هو أنه قد تعارض أصل وغالب فيما انقطعت فيه العلامات المعينة من الأمور التي ليس محصورة فيحكم بالأصل لا بالغالب قياسا على طين الشوارع وجرة النصرانية ، وأواني المشركين وذلك قد أثبتناه من قبل بفعل الصحابة وقولنا : انقطعت العلامات المعينة احتراز عن الأواني التي يتطرق الاجتهاد إليها وقولنا : ليست محصورة احتراز عن التباس الميتة والرضيعة بالذكية والأجنبية فإن قيل : كون الماء طهورا مستيقن وهو الأصل ومن يسلم أن الأصل في الأموال الحل ، بل الأصل فيها التحريم .
فنقول الأمور : لا تحرم لصفة في عينها حرمة الخمر والخنزير خلقت على صفة تستعد لقبول المعاملات بالتراضي كما خلق الماء مستعدا للوضوء وقد وقع الشك في بطلان هذا الاستعداد منهما ، فلا فرق بين الأمرين ، فإنها تخرج عن قبول المعاملة بالتراضي بدخول الظلم عليها كما يخرج الماء عن قبول الوضوء بدخول النجاسة عليه ولا فرق بين الأمرين .
والجواب الثاني أن اليد دلالة ظاهرة دالة على الملك نازلة منزلة الاستصحاب ، وأقوى منه بدليل أن الشرع ألحقه به إذ من ادعى عليه دين فالقول قوله لأن الأصل براءة ذمته وهذا ، استصحاب .
ومن ادعي عليه ملك في يده فالقول أيضا قوله إقامة لليد مقام الاستصحاب ، فكل ما وجد في يد إنسان فالأصل أنه ملكه ما لم يدل على خلافه علامة معينة .
البرهان الثالث هو أن كل ما دل على جنس لا يحصر ولا يدل على معين لم يعتبر وإن كان قطعا فبأن لا يعتبر إذا دل بطريق الظن أولى وبيانه أن ما علم أنه ملك زيد فحقه يمنع من التصرف فيه بغير إذنه ولو علم أن له مالكا في العالم ولكن وقع اليأس عن الوقوف عليه وعلى وارثه فهو مال مرصد لمصالح المسلمين يجوز التصرف فيه بحكم المصلحة ولو دل على أن له مالكا محصورا في عشرة مثلا ، أو عشرين امتنع التصرف فيه بحكم المصلحة فالذي يشك في أن له مالكا سوى صاحب اليد أم لا ، لا يزيد على الذي يتيقن قطعا أن له مالكا ولكن لا يعرف عينه فليجز التصرف فيه بالمصلحة ، والمصلحة ما ذكرناه في الأقسام الخمسة فيكون هذا الأصل شاهدا له وكيف لا وكل مال ضائع فقد مالكه يصرفه السلطان إلى المصالح ، ومن المصالح الفقراء وغيرهم فلو صرف إلى فقير ملكه ونفذ فيه تصرفه فلو سرقه منه سارق قطعت يده فكيف نفذ تصرفه في ملك الغير ليس ذلك إلا لحكمنا بأن المصلحة تقتضي أن ينتقل الملك إليه ويحل له فقضينا بموجب المصلحة .
فإن قيل ذلك يختص بالتصرف فيه السلطان .
فنقول : والسلطان لم يجوز له التصرف في ملك غيره بغير إذنه لا سبب له إلا المصلحة ، وهو أنه لو ترك لضاع فهو مردد بين تضييعه وصرفه إلى مهم والصرف إلى مهم أصلح من التضييع فرجح عليه والمصلحة فيما يشك فيه ولا يعلم تحريمه أن يحكم فيه بدلالة اليد ويترك على أرباب الأيدي إذ انتزاعها بالشك وتكليفهم الاقتصار على الحاجة يؤدي إلى الضرر الذي ذكرناه وجهات المصلحة تختلف فإن السلطان تارة يرى أن المصلحة أن يبني بذلك المال قنطرة وتارة أن يصرفه إلى جند الإسلام وتارة إلى الفقراء ويدور مع المصلحة كيفما دارت وكذلك ، الفتوى في مثل هذا تدور على المصلحة وقد خرج من هذا أن الخلق غير مأخوذين في أعيان الأموال بظنون لا تستند إلى خصوص دلالة في ملك الأعيان كما لم يؤاخذ السلطان والفقراء الآخذون منه بعلمهم أن المال له مالك حيث لم يتعلق العلم بعين مالك مشار إليه ، ولا فرق بين عين المالك وبين عين الأملاك في هذا المعنى فهذا بيان شبهة الاختلاط ولم يبق إلا النظر في امتزاج المائعات والدراهم والعروض في يد مالك واحد وسيأتي بيانه في باب تفصيل طريق الخروج من المظالم .
قال الإسنوي: والمصنف قد تبع الإمام في عدم الجواب عن هذين الدليلين، وقد يجاب عن الأول بأنه لو وجب اعتبار المصالح الملغاة في ذلك، فيلزم اعتبارها وإلغاؤها وهو محال، وعن الثاني أنا لا نسلم إجماع الصحابة عليه، بل إنما اعتبروا في المصالح ما اطلعوا على اعتبار الشارع بنوعه أو جنسه القريب، ولم يصرح الإمام بمختاره في هذه المسألة، والله أعلم .
(فأقول: إن سلم أن الحرام هو الأقل فيكفينا برهانا عصر رسول الله صلى الله عليه وسلم و) عصر (الصحابة) رضوان الله عليهم (مع وجود الربا والسرقة والغلول والنهب) وغيرها من المحرمات، ( وإن قدر زمان يكون الأكثر هو الحرام فيحل التناول أيضا وبرهانه ثلاثة أمور; الأول التقسيم الذي حصرناه) أولا (وأبطلنا منه أربعة، وأثبتنا القسم الخامس، فإن ذلك إذا جرب فيما إذا كان الكل حراما كان أحرى فيما إذا كان الحرام هو الأكثر أو الأقل) بالضرورة، (وقول القائل هو مصلحة مرسلة هوس) وتخبيط، (فإن ذلك إنما تخيله من تخيله في أمور مظنونة) محتملة، (وهذا) الذي ذكرناه (مقطوع به فإنا لا نشك في أن مصلحة الدين والدنيا) كل منهما (مراد للشارع [ ص: 54 ] وهو معلوم بالضرورة، وليس بمظنون، ولا نشك في أن رد كافة الناس إلى قدر الضرورة) الطارئة، (أو إلى) قدر (الحاجة) الداعية (أو إلى) قطع (الحشيش و) أخذ (الصيد مخرب للدنيا أولا و) مخرب (للدين بواسطة الدنيا ثانيا، فما لا نشك فيه لا يحتاج إلى أصل) محصل (يشهد له، وإنما يستشهد) أي: يطلب الدليل والشاهد (على الخيالات المظنونة المتعلقة بآحاد الأشخاص .
البرهان الثاني: أن يعلل بقياس محرر مردود إلى أصل) محكم مضبوط (يتفق الفقهاء الآنسون بالأقيسة الجزئية عليه) ، والمراد بالفقهاء أئمة الأمصار ما عدا الظاهرية المنكرين لأصل القياس، (وإن كانت الجزئيات مستحقرة عند المحصلين) أي: الكمل من أهل التحصيل (بالإضافة إلى) مثل (ما ذكرناه من الأمر الكلي الذي هو ضرورة النبي لو بعث في زمان عم التحريم فيه، حتى لو حكم بغيره لخرب العالم) ، وبطل نظامه، (فالقياس المحرر الجزئي هو أنه قد تعارض أصل وغالب فيما انقطعت فيه العلامات المعينة) ، أي: المثبتة العين (من الأمور التي ليست محصورة) بعدد، (فيحكم بالأصل لا بالغالب قياسا على طين الشوارع) العامة، (و) على (جرة النصرية، وأواني المشركين) أي: الكفار المتدينين بالنجاسة، (وذلك قد أثبتناه من قبل) هذا (بفعل الصحابة) ، كعمر رضي الله عنه وغيره، (وقولنا: انقطعت العلامات احترازا من الأواني التي يتطرق الاجتهاد إليها) ، ولا أمارة هناك (وقولنا: ليست محصورة احترازا عن التباس الميتة والرضيعة بالذكية) ، أي: المذكاة، (والأجنبية) ، وفيه لف ونشر مرتب، (فإن قيل: كون الماء طهورا مستيقن وهو الأصل) ، فإن الله سبحانه خلقه كذلك، (ومن يسلم أن الأصل في الأموال هو الحل، بل الأصل فيها التحريم، فنقول: الأموال التي لا تحرم لصفة في عينها كتحريم الخمر والخنزير خلقت على صفة تستعد لقبول المعاملات بالتراضي) من الجانبين (كما خلق الماء مستعدا للوضوء) والطهارة .
(وقد وقع الشك في بطلان هذا الاستعداد منها، فلا فرق بين الأمرين، فإنها تخرج عن قبول المعاملة بالتراضي بدخول الظلم عليها كما يخرج الماء عن قبول الوضوء بدخول النجاسة) عليها، (فلا فرق) بين الأمرين .
(والجواب الثاني أن اليد) ، أي: وضعها (دلالة ظاهرة دالة على الملك نازلة منزلة الاستصحاب، وأقوى منه بدليل أن الشرع ألحقه به) ، وفي نسخة: ألحقها به (إذ من ادعى عليه دين) وطالبه المدعي، فأنكر المدعى عليه، (فالقول قوله) ، أي: قول من ادعي عليه; (لأن الأصل براءة ذمته، فهو استصحاب) الحال، (و) كذلك (من ادعي عليه ملك في يده) أي: وذلك الملك في تصرفه، (فالقول أيضا قوله) في هذه الصورة (إقامة لليد مقام الاستصحاب، فكل ما وجد في يد إنسان فالأصل أنه ملكه ما لم يدل على خلافه علامة معينة) دالة على عينه .
(البرهان الثالث هو أن ما دل على جنس لا يحصر) بعدد (ولم يدل على عين لم يعتبر) شرعا، (وإن كان) ما دل (قطعيا) لا بطريق الظن، (فبان لا يعتبر إذا دل بطريق الظن أولى) ، فإن الدلالة القطعية أقوى من الدلالة الظنية (وبيانه أن ما علم) من مال (أنه ملك زيد) مثلا، (فحقه أن يمنع من التصرف فيه) لأحد (بغير إذنه) شرعا، (ولو علم أن له مالكا في العالم) غير معين، (ولكن وقع اليأس) وقطع الطمع (من الوقوف عليه وعلى وارثه) ، ولم يطلع [ ص: 55 ] (فهو مال مرصد) محبس (لمصالح المسلمين يجوز التصرف فيه بحكم المصلحة) المقتضية، (ولو دل على أن له مالكا محصورا في عشرة أشخاص مثلا، أو) في (عشرين) شخصا (امتنع التصرف فيه) ; لأن معرفة هذا القدر مقدور عليه، (فالذي يشك في أن له مالكا سوى صاحب اليد أم لا، لا يزيد على الذي تيقن قطعا أن له مالكا) في العالم، (ولكن لا يعرف عينه) ، فليجز التصرف فيه (بالمصلحة، والمصلحة) هي (ما ذكرناه في) تضاعيف (الأقسام الخمسة) المذكورة آنفا، (فيكون هذا الأصل شاهدا له) ودليلا عليه، (وكيف لا وكل مال فقد مالكه ) ، ولم يعرف، فإنه (يصرفه السلطان إلى المصالح، ومن) تلك (المصالح الفقراء وغيرهم) من أرباب الاستحقاق، (فلو صرف) من ذلك (إلى فقير) مثلا (لملكه ونفذ فيه تصرفه) لكونه مستحقا، (ولو سرقه منه سارق) مثلا (قطعت يده) ; لأنه أخذه من حرز المثل، (فكيف نفذ تصرفه في ملك الغير) ، انظر ذلك، (ليس ذلك إلا لحكمنا بأن المصلحة تقتضي أن ينتقل الملك إليه ويحل له) تناوله، (فقضينا بموجب المصلحة) بفتح الجيم، أي: بما توجبه المصلحة، (فإن قيل ذلك يختص بالتصرف فيه السلطان) دون غيره، (فنقول: والسلطان لم يجز له التصرف في ملك الغير بغير إذنه لا سبب له إلا المصلحة، وهو أنه لو ترك) هملا (لضاع فهو) مردد (بين تضييعه وبين صرفه إلى مهم) شرعي (والصرف إلى المهم أولى) ، وفي نسخة: أصلح (من التضييع) ، أي: من تركه حتى يضيع، (فرجح عليه) لذلك، (والمصلحة فيما يشك فيه ولا يعلم تحريمه أن يحكم فيه بدلالة اليد ويترك على أرباب الأيدي) ، وملاكها (إذ انتزاعها بالشك) من أيديهم (وتكليفهم الاقتصار على الحاجة) الحضورية (يؤدي إلى الضرر الذي ذكرناه) آنفا، (وجهات المصلحة مختلفة) ، وفي نسخة: تختلف، (فإن السلطان تارة يرى من المصلحة أن يبني بذلك المال قنطرة له) على نهر في ممر عام يجوز عليها الناس (وتارة) يرى (أن يصرفه إلى جند الإسلام) إذا خاف هجوم عدو، (وتارة إلى الفقراء) إذا تغير حالهم آنس منهم ذلك، (ويدور مع المصلحة كيفما دارت، فكذلك الفتوى في مثل هذا تدور على المصلحة) كيفما دارت، (فقد خرج من هذا) الذي بسطناه ( أن الخلق غير مأخوذين في أعيان الأموال بظنون لا تستند إلى خصوص دلالة ) ، أي: دلالة خاصة، (في تلك الأعيان كما لم يؤاخذ السلطان والفقراء الآخذون منه بعلمهم أن المال له مالك حيث لم يتعلق العلم بعين مالك مشار إليه، ولا فرق بين عين المالك وبين أعيان الأملاك في هذا المعنى) ، بل هما مستويان في الحكم .
(فهذا بيان شبهة الاختلاط) الذي وعدنا به، (ولم يبق إلا النظر في امتزاج المائعات والدراهم أو العروض في يد المالك الواحد) ، وفي نسخة: في يد مالك واحد، (وسيأتي بيانه) قريبا (في باب تفصيل الخروج من المظالم) المالية .