الحالة الثالثة : أن يعتزلهم فلا يراهم ولا يرونه وهو الواجب إذ لا سلامة إلا فيه فعليه أن يعتقد بغضهم على ظلمهم ولا يحب بقاءهم ولا يثني عليهم ولا يستخبر عن أحوالهم ولا يتقرب إلى المتصلين بهم ولا يتأسف على ما يفوت بسبب مفارقتهم ، وذلك إذا خطر بباله أمرهم ، وإن غفل عنهم فهو الأحسن .
وإذا خطر بباله تنعمهم فليذكر ما قاله حاتم الأصم إنما بيني وبين الملوك يوم واحد فأما أمس فلا يجدون لذته وإني وإياهم في غد لعلى وجل ، وإنما هو اليوم وما عسى أن يكون في اليوم وما قاله nindex.php?page=showalam&ids=4أبو الدرداء إذ قال : أهل الأموال يأكلون ونأكل ويشربون ونشرب ، ويلبسون ونلبس ولهم فضول أموال ينظرون ، إليها وننظر معهم إليها ، وعليهم حسابها ونحن منها براء .
فهذا واجب عليه ; لأن من صدر منه ما يكره نقص ذلك من رتبته في القلب لا محالة .
والمعصية ينبغي أن تكره فإنه إما أن يغفل عنها أو يرضى بها ، أو يكره ولا غفلة مع العلم ولا وجه للرضا فلا بد من الكراهة فليكن جناية كل أحد على حق الله ، كجنايته على حقك .
فإن قلت : الكراهة لا تدخل تحت الاختيار فكيف تجب ، قلنا ليس كذلك فإن المحب يكره بضرورة الطبع ما هو مكروه عند محبوبه ومخالف له فإن من لا يكره معصية الله لا يحب الله وإنما لا يحب الله من لا يعرفه والمعرفة ، واجبة والمحبة لله واجبة .
وإذا أحبه كره ما كرهه وأحب ما أحبه وسيأتي تحقيق ذلك في كتاب المحبة والرضا .
(الحالة الثالثة: أن يعتزل عنهم فلا يراهم ولا يرونه ) ، وهو أحسن الأحوال، (وهو واجب إذ لا سلامة إلا فيه) ، وفي مخالطتهم فتن وظلمات ومعاص، (فعليه أن يعتقد بغضهم على ظلمهم) أي: لأجل ظلمهم، (ولا يحب بقاءهم) في الدنيا استئصالا لمادة الظلم لما ورد في الخبر السابق، (ولا يثني عليهم) في المجالس، (ولا يستخبر عن أحوالهم) من الناس، كيف فعلوا، كيف تركوا، (ولا يتقرب إلى المتصلين بهم) ، فإنهم يدعونه إلى ما فيه هلاكه، (ولا يتأسف على ما يفوت) له من الحظ والدنيا، (بسبب مفارقتهم، وذلك إذا خطر بباله أمرهم، وإن غفل عنهم فهو الأحسن) ، فإن لم يغفل فليتغافل، (وإذا خطر بباله تنعمهم) وما بسط لهم من زخارف الدنيا، (فليذكر ما قاله حاتم) بن علوان (الأصم) رحمه الله تعالى، وكان قد اعتزل الناس في قبة له قدر ثلاثين سنة فلا يخاطبهم إلا لحاجة، (إنما بيني وبين الملوك يوم واحد أما أمس) الذي مضى (فلا يجدون لذته وإني وإياهم من غد) الذي يأتي، (لعلى وجل، وإنما هو اليوم فما عسى أن يكون في اليوم) ، وإليه أشار بعضهم بقوله:
ما مضى فات والمؤمل غيب ولك الساعة التي أنت فيها
(و) ليذكر (ما قاله nindex.php?page=showalam&ids=4أبو الدرداء ) رضي الله عنه (إذ قال: أهل الأموال يأكلون ونأكل ويشربون ونشرب، ويلبسون ونلبس) أي: شاركناهم في هذه الأفعال، (ولهم فضول أموالهم، وينظرون إليها وننظر معهم إليها، وعليهم حسابهم ونحن منها برآء) ، أي: لا حساب علينا، (وكل من أحاط علمه بظلم ظالم أو معصية عاص، فينبغي أن يحط ذلك من درجته ) ومرتبته (من قلبه) أي: لا يكون له في قلبه وقع لقدومه أو لذكره، (فهذا واجب عليه; لأن من صدر منه ما يكره) أي: ما هو مكروه عند الله تعالى (نقص ذلك من رتبته في القلب لا محالة، والمعصية ينبغي أن تكره فإنها) لا تخلو (إما أن يغفل عنها أو يرضى بها، أو تكره ولا غفلة مع) إحاطة (العلم) بها، (ولا وجه للرضا) بها، فإن الرضا بها معصية، (فلا بد من الكراهة فلتكن جناية كل واحد من هؤلاء) أي: من الظلمة (على حق) من حقوق (الله تعالى، كجنايته على حقك) ، بل أعظم، (فإن قلت: الكراهة لا تدخل تحت الاختيار) يعني: ليس في اختيار المرء أن يكره شيئا، فقد تكون النفس مجبولة على الخلاف، (فكيف يجب ولا يجب، قلنا ليس كذلك) الأمر، (فإن المحب يكره بضرورة الطبع ما هو مكروه عند محبوبه ومخالف له) ، وبه يتم مقام محبته، وذلك (فإن من لا يكره معصية الله تعالى لا يحب الله) عز وجل، وفي نسخة: فإنما لا يكره معصية الله من لا يحب الله، (وإنما لا يحب الله من لا يعرفه، فالمعرفة واجبة والمحبة لله واجبة) ، إذ المحبة فرع من معرفته، فإذا ثبتت المعرفة ثبتت كراهة المعاصي، وإليه أشار بقوله: (وإذا أحبه كره ما كرهه وأحب ما أحبه) ، وفي نسخة: ما يكرهه وما يحبه، (وسيأتي تحقيق ذلك في كتاب المحبة والرضا) إن شاء الله تعالى .