والحق في هذا أن المشاهدة والتجربة تشهد للائتلاف عند التناسب والتناسب في الطباع والأخلاق باطنا وظاهرا أمر مفهوم .
وأما الأسباب التي أوجبت تلك المناسبة ، فليس في قوة البشر الاطلاع عليها ، وغاية هذيان المنجم أن يقول : إذا كان طالعه على تسديس طالع غيره أو تثليثه ، فهذا نظر الموافقة والمودة فتقتضي التناسب والتواد ، وإذا كان على مقابلته أو تربيعه اقتضى التباغض والعداوة .
فهذا لو صدق بكونه كذلك في مجاري سنة الله في خلق السموات والأرض لكن الإشكال فيه أكثر من الإشكال في أصل التناسب فلا ، معنى للخوض فيما لم يكشف سره للبشر ، فما أوتينا من العلم إلا قليلا ويكفينا في التصديق بذلك التجربة والمشاهدة فقد ورد الخبر به ، قال صلى الله عليه وسلم : لو أن مؤمنا دخل إلى مجلس فيه مائة منافق واحد لجاء حتى يجلس إليه ، ولو أن منافقا دخل إلى مجلس فيه مائة مؤمن ومنافق واحد لجاء حتى يجلس إليه .
وهذا يدل على أن شبه الشيء منجذب إليه بالطبع ، وإن كان هو لا يشعر به ، وكان مالك بن دينار يقول : لا يتفق اثنان في عشرة إلا وفي أحدهما وصف من الآخر وإن أجناس الناس كأجناس الطير ، ولا يتفق نوعان من الطير في الطيران إلا وبينهما مناسبة قال فرأى يوما غرابا مع حمامة فعجب من ذلك فقال : اتفقا وليسا من شكل واحد ثم طارا فإذا هما أعرجان فقال : من ههنا اتفقا ولذلك قال بعض الحكماء : كل إنسان يأنس إلى شكله كما أن كل طير يطير مع جنسه وإذا اصطحب اثنان برهة من زمان ، ولم يتشاكلا في الحال ، فلا بد أن يتفرقا وهذا معنى خفي تفطن له الشعراء حتى قال قائلهم .
:
وقائل كيف تفارقتما فقلت قولا فيه إنصاف لم يك من شكلي ففارقته والناس أشكال وألاف
فقد ظهر من هذا أن الإنسان قد يحب لذاته لا لفائدة تنال منه في حال أو مآل ، بل لمجرد المجانسة والمناسبة في الطباع الباطنة والأخلاق الخفية .
ويدخل في هذا القسم الحب للجمال إذا لم يكن المقصود قضاء الشهوة فإن الصور الجميلة مستلذة في عينها وإن قدر فقد أصل الشهوة حتى يستلذ النظر إلى الفواكه والأنوار والأزهار والتفاح المشرب بالحمرة وإلى الماء الجاري والخضرة من غير غرض سوى عينها وهذا الحب لا يدخل فيه الحب لله ، بل هو حب بالطبع وشهوة النفس ويتصور ذلك ممن لا يؤمن بالله إلا أنه إن اتصل به غرض مذموم صار مذموما كحب الصورة الجميلة لقضاء الشهوة حيث لا يحل قضاؤها .
وإن لم يتصل به غرض مذموم ، فهو مباح لا يوصف بحمد ولا ذم إذا الحب إما محمود ، وإما مذموم ، وإما مباح لا يحمد ولا يذم .
(والحق في هذا أن المشاهدة) بالعيان، (والتجربة) الصحيحة (تشهد للائتلاف عند المناسبة والتناسب في الطباع والأخلاق باطنا وظاهرا أمر مفهوم) . لا ينكر، (وأما الأسباب التي أوجبت تلك المناسبة، فليس) يسأل عنها، فإنه ليس (في قوة البشر الاطلاع عليها) ، والإحاطة بها، (وهذا ليس فيه إلا التسليم، وغاية هذيان المنجم) وخرافاته، (أن يقول: إذا كان طالعه) في الذابحة (على تسديس طالع غيره أو تثليثه، فهذا نظر الموافقة والمودة فيقتضي التناسب والتوادد، وإذا كان على مقابلته أو تربيعه اقتضى العداوة والتباغض) ، ويقولون: المقابلة مقاتلة، فكلما كان بعيدا كان أوفق، وطالع اليوم هو البرج الذي فيه الشمس، وطالع الساعة هو برجها الذي هو مختص بها، ورب اليوم هو كوكبه ورب الساعة هو كوكبها. (وهذا لو صدق بكونه كذلك في مجاري سنة الله تعالى في خلق السموات والأرض لكان الإشكال فيه أكثر من الإشكال في أصل التناسب، ولا معنى للخوض فيما لا ينكشف سره للبشر، فما أوتينا من العلم إلا قليلا) بنص القرآن، (ويكفينا في التصديق بذلك التجربة) الصحيحة، (والمشاهدة) العيانية، (وقد ورد الخبر به، قال صلى الله عليه وسلم: لو أن مؤمنا دخل إلى مجلس فيه مائة منافق ومؤمن واحد لجاء حتى يجلس إليه، ولو أن منافقا دخل إلى مجلس فيه مائة مؤمن ومنافق واحد لجاء حتى يجلس إليه ) .
قال العراقي : رواه nindex.php?page=showalam&ids=13933البيهقي في شعب الإيمان موقوفا على nindex.php?page=showalam&ids=10ابن مسعود ، وذكره صاحب الفردوس عن nindex.php?page=showalam&ids=32معاذ بن جبل ، ولم يخرجه ولده في المسند. انتهى .
وأما حديث nindex.php?page=showalam&ids=32معاذ الذي أورده الديلمي بلا سند فلفظه: "لو أن رجلا مؤمنا دخل مدينة فيها ألف منافق ومؤمن واحد، لشم روحه روح ذلك المؤمن وعكسه" . (وهذا يدل على أن شبه الشيء منجذب إليه بالطبع ، وإن كان هو لا يشعر به، وكان مالك بن دينار) أبو يحيى البصري رحمه الله تعالى (يقول: لا يتفق اثنان [ ص: 184 ] في عشرة) ودوام صحبة (إلا وفي أحدهما وصف من الآخر) يناسبه، (وإن أشكال الناس كأجناس الطير، ولا يتفق نوعان من الطير في الطيران) في الهواء (إلا وبينهما مناسبة) تكون سببا لاتفاقهما، كذا في القوت، (قال) nindex.php?page=showalam&ids=16867مالك (ورأى رجل) ، ولفظ القوت: فرأى يعني nindex.php?page=showalam&ids=16867مالكا (غرابا مع حمامة فعجب من ذلك، وقال: اتفقا وليس من شكل واحد) ، وكان يقول بالمناسبة فكاد أن ينكر على ذلك قال: (ثم طارا فإذا هما أعرجان) أما الغراب فإنه يمشي مشية الأعرج، وأما الحمامة فكان أصابها العرج حقيقة، فقوله هما أعرجان على التغليب، أو كان العرج فيهما حقيقة (فقال: من ههنا اتفقا) كذا في القوت، وهذه الحكاية اشتهر بين الخواص نسبتها للمصنف، وإنه هو الذي كان يقول بالمناسبة، وهو الذي رأى غرابا وبلبلا يمشيان متفقين في صحن المسجد الأقصى، فلما رأوا ذلك أنكروا على المصنف فتعجب من ذلك حتى كاد أن يقول بعدم التناسب، فبينما كذلك إذ أخذ بحجر فرماهما به فطارا، فإذا البلبل أعرج، فقال: من ههنا اتفقا، وقد نسبه الشيخ المناوي هكذا، وأشرت إليه في مقدمة كتاب العلم، والصواب ما هنا فلينتبه لذلك، ولولا أن نسخ هذا الشرح قد انتشرت في الحجاز وبلاد الترك والتكرور والسودان لغيرت فيها وبدلت، ولكن كان ذلك قدرا مقدورا، (وكذلك قال بعض الحكماء: كل إنسان يألف إلى شكله) ، ولفظ القوت مع شكله (كما أن كل طير) يألف (مع جنسه) يطير معه حيثما طار (فإذا اصطحب اثنان برهة من زمان، ولم يتشاكلا في الحال، فلا بد أن يفترقا) ، ولهذا قال الإمام nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي رحمه الله تعالى: العلم جهل عند أهل الجهل، كما أن الجهل جهل عند أهل العلم، قال المناوي : حكى الشرواني أن تيمورلنك كان يحب رجلا من معتقدي العجم ويتردد إليه فوجد الرجل في قلبه ميلا لتيمورلنك فتخوف وقال: ما المناسبة، فمنع تيمورلنك من دخوله عليه فسأله عن سببه فذكر ما خطر له، فقال تيمور : بيني وبينك مناسبة وهي حبك آل بيت النبي وأنا والله أحبهم وأنت رجل كريم، وأنا أحب الكرم، فهذه المناسبة المقتضية للميل لا ما في من الشر .
قال: وحكى بعضهم أن اثنين اصطحبا في سفينة فقعد أحدهما على طرفها والآخر بوسطها، فسقط من على الطرف في البحر، فرمى الآخر نفسه عليه فأخرجا بالحياة فقال الأول للثاني: إني كنت بطرفها فوقعت فما لك أنت؟ قال: لما وقعت أنت غبت بك عني فحسبت أنك أني، (وهذا معنى خفي تفطن له بعض الشعراء حيث قال:) ولفظ القوت: وقد أنشدنا بعض الشيوخ لبعض الأدباء:
( وقائل كيف تفرقتما فقلت قولا فيه إنصاف ) ( لم يك من شكلي ففارقته والناس أشكال وألاف )
الألاف على وزن رمان جمع أليف، (فقد ظهر من هذا أن الإنسان قد يحب لذاته لا لفائدة تنال منه في حال أو مآل، بل بمجرد المناسبة) ، والملاءمة (والمناسبة في الطباع الباطنة والأخلاق الخفية) التي لا تدرك بالحواس الظاهرة، (ويدخل في هذا القسم الحب للجمال إذا لم يكن المقصود) منه (قضاء الشهوة) الإنسانية (فإن الصورة الجميلة مستلذة في عينها) وحقيقتها، (وإن قدر فقد أصل الشهوة حتى يستلذا لنظر إلى الفواكه) المتنوعة، (والأنوار والأزهار) والرياحين (والتفاح المشوب بالحمرة وإلى الماء) سيما إذا كان متدفقا، (والخضرة من غير غرض) عارض (سوى عينها) ، ولذا جمعت الثلاثة في قوله
ثلاثة يجلين عن القلب الحزن الماء والخضرة والوجه الحسن
(وهذا الحب لا يدخل فيه الحب لله تعالى، بل هو حب بالطبع وشهوة النفس) الحيوانية (ويتصور ذلك ممن لا يؤمن بالله) ولا له حب في الله (ألا إنه إذا اتصل به غرض مذموم صار مذموما) في الحال (كحب الصورة الجميلة لقضاء الشهوة حيث لا يحل قضاؤها) بأن كان محرما عليه، (وإن لم يتصل به غرض مذموم، فهو مباح لا يوصف بحمد ولا بذم إذ الحب إما محمود، وإما مذموم، وإما مباح لا يحمد ولا يذم) ، فالمحمود هو [ ص: 185 ] حب الله تعالى، والمذموم ما تعلق به غرض مذموم، والمباح ما لم يتعلق به ذلك .