وما زال هو ينحل من الغم والجوع حتى زال الهوى عن قلب أخيه بعد الأربعين فأخبره بذلك فأكل وشرب بعد أن كاد يتلفت هزالا وضرا .
وكذلك حكي عن أخوين من السلف انقلب أحدهما عن الاستقامة فقيل لأخيه ألا تقطعه وتهجره فقال : أحوج ما كان إلي في هذا الوقت لما وقع في عثرته أن آخذ بيده وأتلطف له في المعاتبة وأدعو له بالعود إلى ما كان عليه .
وروي في الإسرائيليات أن أخوين عابدين كانا في جبل نزل أحدهما ليشتري من المصر لحما بدرهم فرأى بغيا عند اللحام فرمقها وعشقها واجتذبها إلى خلوة وواقعها ثم أقام عندها ثلاثا واستحيا أن يرجع إلى أخيه حياء من جنايته .
قال : فافتقده أخوه واهتم بشأنه فنزل إلى المدينة فلم يزل يسأل عنه حتى دل عليه فدخل إليه وهو جالس معها فاعتنقه وجعل يقبله ويلتزمه وأنكر الآخر أنه يعرفه قط لفرط استحيائه منه فقال : قم يا أخي فقد علمت شأنك وقصتك وما كنت قط أحب إلي ولا أعز من ساعتك هذه فلما رأى أن ذلك لم يسقطه من عينه قام فانصرف معه .
فهذه طريقة قوم وهي ألطف وأفقه من طريقة nindex.php?page=showalam&ids=1584أبي ذر رضي الله عنه وطريقته أحسن وأسلم .
فإن قلت ولم : ؟ قلت : هذا ألطف وأفقه ، ومقارف هذه المعصية لا تجوز مؤاخاته ابتداء فتجب مقاطعته انتهاء ؟! لأن الحكم إذا ثبت بعلة فالقياس أن يزول بزوالها .
(و) من آدابهم في الصحبة الاستغفار للإخوان بظهر الغيب والاهتمام لهم مع الله تعالى في دفع المكاره عنهم (حكي أن أخوين) في الله تعالى (ابتلي أحدهما بهوى) أي: بحب صورة حسنة (فأظهر عليه) أي: على سره (أخاه) إذ كانوا لا يكتمون عن الأخ شيئا من أحوالهم (وقال إني اعتللت) أي: أصابتني علة العشق (فإن شئت أن لا تقدر على محبتي لله تعالى فافعل) أي: لأني صرت مشغولا بما أنا فيه فلا أطيق حمل أعباء الأخوة ولا على أداء حقوقها (فقال: ما كنت لأحل عقد أخوتك) في الله (لأجل خطيئتك) التي أصابتك (أبدا) قال: (ثم اعتقد أخوه بينه وبين الله تعالى) أي: عزم على (أن لا يأكل ولا يشرب حتى يعافي الله أخاه من هواه) الذي ابتلي به قال: (وما زال هو) أي: أخوه الآخر (ينحل) ويسقم (من الجوع والغم حتى زال الهوى من قلب أخيه بعد الأربعين) يوما، قال (فأخبره بذلك فأكل وشرب بعد أن كاد يتلف هزالا وضرا) أي: من قلة الأكل والشرب والغم على أخيه، هكذا أورده صاحب القوت وتبعه صاحب العوارف .
(وهكذا حكي) ولفظ القوت وبمعناه حدثت (عن أخوين من السلف أحدهما انقلب عن الاستقامة) أي: تغير حاله عما كان فيه (فقيل لأخيه) التقى (ألا تقطعه وتهجره) أي: تترك صحبته (فقال: أحوج ما كان إلي في هذا الوقت لما وقع في عثرته أن آخذ بيده) وأعينه (وأتلطف له في المعاتبة وأدعو له بالعود إلى ما كان عليه من الاستقامة) نقله صاحب القوت والعوارف (وذكر في الإسرائيليات) ولفظ القوت وفيما روينا من الإسرائيليات أي: في الكتب التي أنزلها الله تعالى على أنبياء بني إسرائيل (أن أخوين عابدين في جبل) أي: كانا يأويان إلى جبل فيعبدان الله فيه فاتفق أنه (نزل أحدهما من الجبل يشتري من المصر) أي: القرية القريبة من الجبل (لحما بدرهم) ليتقويا به على عبادة الله تعالى (فرأى بغيا) أي: زانية (عند اللحام) أي: الجزار الذي يبيع اللحم (فرمقها) بعينه (وعشقها) وأصل البلاء من النظر، ولفظ القوت: فهواها (فواقعها) أي: غلب عليه الشيطان حتى اتفق وإياها، فأتت به إلى منزلها فاختلى معها (ثم أقام عندها ثلاثا واستحيا أن يرجع إلى أخيه من جنايته) أي: من أجل جنايته، وفي بعض النسخ: بجنايته (قال: فافتقده أخوه) الذي في الجبل (واهتم لشأنه فنزل المدينة فلم يزل يسأل عنه حتى دل عليه) وأخبر بمكانه (فدخل عليه وهو جالس معها فاعتنقه وجعل يقبله ويلتزمه وأنكر الآخر أنه يعرفه لفرط استحيائه منه، قال: قم يا أخي قد علمت بشأنك وقصتك وما كنت قط أحب إلي ولا أعز علي من ساعتك هذه) ولفظ القوت: وما كنت أعز علي وأحب منك في يومك هذا ولا ساعتك هذه (فلما رأى أن ذلك لم يسقطه عن عينه قام فانصرف معه) هكذا أورده صاحب القوت .
(فهذه طريقة قوم وهي ألطف وأفقه من طريق nindex.php?page=showalam&ids=1584أبي ذر) -رضي الله عنه- (وطريقته أحسن وأسلم) ولفظ القوت: فهذا من أحسن النيات، وهو من طريق العارفين من ذوي الآداب والمروءات (فإن قلت: فلم؟ قلت: إن هذا ألطف وأفقه، ومقارف هذه المعصية لا تجوز مؤاخاته) في الله تعالى (ابتداء) أي: في بادئ الأمر (فلم لا نحب مقاطعته انتهاء؟!) أي: في آخر الأمر عند انكشاف حاله (لأن الحكم إذا ثبت لعلة فالقياس أن يزول) ذلك [ ص: 229 ] والحكم (بزوالها) أي: تلك العلة .