وأنه بعث النبي الأمي القرشي محمدا صلى الله عليه وسلم برسالته إلى كافة العرب والعجم والجن والإنس .
ثم لما كانت المباحث المتعلقة بهذا العلم منقسمة على ثلاثة أقسام: قسم يتعلق بالإلهيات، أي: المسائل المتعلقة بالإله عز وجل، وقسم بالنبويات، وقسم بالسمعيات، وقد فرغ من قسم الإلهيات شرع في بيان القسم الثاني، وهو النبويات، وهي المسائل المبحوث فيها عن النبوة وأحوالها، والثالث وهو السمعيات، وهي المسائل التي لا تتلقى أحكامها إلا من السمع، ولا تؤخذ إلا من الوحي .
فقال: (معنى الكلمة الثانية) من الشهادتين (الشهادة) وهكذا في سائر النسخ، وكان تأنيث الضمير باعتبار ما أضيف إليه (للرسول) ، هكذا في سائر النسخ، وقد وقع له هكذا في أول كتاب العلم، وسبق التنبيه بأن التاج السبكي نقل من طبقاته عن nindex.php?page=showalam&ids=13790الإمام الشافعي -رضي الله عنه- أنه كان يمنع من هذا التعبير، وإنما يقال: رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ؛ لأنه أقرب للتعظيم وأكثر، والشهادة قول صادر عن علم بمشاهدة بصر أو بصيرة، وجملة الصلاة أتى بها للتبرك (وأنه) تعالى (بعث) أي: أرسل، ومطاوعه انبعث، وكل شيء ينبعث بنفسه فإن الفعل يتعدى إليه بنفسه، يقال: بعثته، وما هنا كذلك، وكل شيء لا ينبعث بنفسه كالكتابة والهدية فإن الفعل يتعدى إليه بالباء، يقال: بعث به، أي: وجهه (النبي) وحقيقته إنسان خصه الله بسماع وحي، ولم يؤمر بالتبليغ، وحقيقة الرسول إنسان بعثه الله إلى خلقه ليبلغهم ما أوحي إليه من الأحكام الشرعية، وحقيقة الرسالة الأمر بتبليغ الوحي، وحقيقة النبوة الاختصاص بالوحي، قيل: النبي أعم; لأنه يطلق على من أوحي إليه أمر بالتبليغ، أو لم يؤمر، والرسول أخص، والكلية تدخل على الأخص، فكل رسول نبي، ولا عكس، وإنما البعض كالنبي -صلى الله عليه وسلم- وسائر إخوانه المرسلين من البشر، وبعض من كان رسولا ولم يكن نبيا، كجبريل -عليه السلام-، ومنهم من اعتبر ما يزيد به كل واحد منهما، فقال: بينهما عموم وخصوص من وجه، يجتمعان فيمن أوحي إليه وأمر بالتبليغ من البشر، وتنفرد النبوة فيمن أوحي إليه ولم يؤمر بالتبليغ، وتنفرد الرسالة بالملائكة .
(الأمي) منسوب إلى الأم; لكونه لم يقرأ ولم يكتب، كما تقدم تحقيقه في كتاب العلم، أو إلى أم القرى، وهي مكة؛ لولادته بها، أو إلى أم الكتاب، وهو اللوح المحفوظ; لأن علمه منه، أو غير ذلك، وقد بسطناه في شرحنا على القاموس .
(القرشي) نسبة إلى قريش على غير قياس، وهو لقب جده النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان، ومن لم يلده فليس بقرشي، نقله السهيلي وغيره، وسبب تلقيبه بذلك والاختلاف فيه بسطناه في شرح القاموس .
(محمدا) وهو اسم مفعول من التحميد، وهو مبالغة في الحمد، وذلك لأنه إذا بلغت خصال المرء النهاية وتكاملت فيه المحاسن فهو محمد، قال المناوي في "شرح الجامع الصغير": لكن ذكر بعض المحققين أنه إنما هو من صيغ المبالغة، باعتبار ما قيل فيه من معنى الكثرة بخصوصه، لا من جهة اللغة، إذ لا يلزم من "زيد مفضل على عمرو" المبالغة في تفضيله عليه، إذ [ ص: 35 ] معناه: له جهة تفضيل عليه، بفرض كونه للتكثير، لا يلزم منه المبالغة; لأنها لا تتجاوز حد الكثرة، ولحصرهم صيغ المبالغة في عدد مخصوص، وكونه أجل من حمد وأفضل من حمد لا يستلزم وضع الاسم للمبالغة؛ لأن ذلك ثابت له لذاته، وإن لم يسم به، نعم، المناسبة قائمة به، مع ما سبق من دلالة البناء عرفا على بلوغ النهاية في ذلك الوصف، وقد ألف شيخ شيوخنا الشمس محمد بن محمد بن شرف الدين الخليلي رسالة خاصة لما يتضمن هذا الاسم الكريم من المعاني والأسرار (صلى الله عليه وسلم) من الصلاة، وهي من الله تعالى الرحمة، وتعلق لفظ "على"، بها لتضمن معنى النزول، والسلام والتسليم من الآفات المنافية لغاية الكمال، وجمع بينهما لكراهة إفراد أحدهما، أي: لفظا لا خطا، أو مطلقا، وقد تقدم البحث فيه في أول كتاب العلم في الخطبة .
(برسالته) وهي السفارة بين الله وبين ذوي الألباب؛ لإزاحة عللهم فيما يحتاجونه من مصالح الدارين (إلى كافة) قال الأزهري: هو مصدر على "فاعلة"، كالعافية والعاقبة، ولا يثنى ولا يجمع، وفي المصباح: وجاء الناس كافة، قيل: منصوب على الحال نصبا لازما، لا يستعمل إلا كذلك، وعليه قوله تعالى: وما أرسلناك إلا كافة للناس ، أي: إلا للناس جميعا (العرب والعجم والإنس والجن) ، وقال nindex.php?page=showalam&ids=14803أبو البقاء: إضافة "كافة" إلى ما بعدها خطأ; لأنه لا يقع إلا حالا، وإنما قيل: للناس كافة؛ لأنه ينكف بعضهم إلى بعض، وبالإضافة تصير إضافة الشيء إلى نفسه. اهـ .
هذا إذا أريد بالكافة الجماعة، وإذا ذهب به إلى أنه مصدر، كما قال الأزهري، فلا يلزم منه إضافة الشيء إلى نفسه، فتأمل .
والعرب: اسم مؤنث، ولهذا يوصف بالمؤنث، فيقال: العرب العرباء، والعرب العاربة، وهم خلاف العجم، سموا بذلك لأنهم سكنوا بلادا يقال لها العربات، والخلاف في ذلك وفي نسبهم بسطناه في شرح القاموس. والجن -بالكسر- خلاف الإنس، سموا بذلك لاستتارهم عن الأعين، كما أن الإنس من "أنس"، إذا ظهر، أو ألف، وتفصيل ذلك كله في شرح القاموس، ثم إن المراد بهذا التعبير أنه مبعوث إلى الثقلين: الإنس والجن، والعرب والعجم داخلون في الإنس، وقد يعبر عنهم بالأسود والأحمر، وكونه مبعوثا إلى الثقلين خاصة اختاره الحليمي والبيهقي، بل حكى الفخر الرازي والنسفي عليه الإجماع، ومنهم من زاد: "والملائكة"، وانتصر له السبكي، مستدلا بآية: ليكون للعالمين نذيرا ، وخبر: "أرسلت إلى الخلق كافة"، ونازع فيما حكي عن الحليمي بأن nindex.php?page=showalam&ids=13933البيهقي نقله عنه، وتبرأ منه، nindex.php?page=showalam&ids=14164والحليمي -وإن كان سنيا- لكن وافق المعتزلة في تفضيل الملك على البشر، فظاهر حاله بناؤه عليه، وبأن الاعتماد على تفسيرهما في حكاية إجماع -انفردا بحكايته- لا ينهض حجة عند أئمة النقل; لأن مدارك نقل الإجماع إنما تتلقى من كلام أصحاب المذاهب المطبوعة، ومن يلحق بهم في سعة دائرة الاطلاع والحفظ والإتقان والشهرة عند علماء النقل .