وأوله سؤال منكر ونكير وهما شخصان مهيبان هائلان يقعدان العبد في قبره سويا ذا روح وجسد فيسألانه عن التوحيد والرسالة ويقولان له من ربك ؟ وما دينك ؟ ومن نبيك ؟ وهما فتانا القبر وسؤالهما أول فتنة بعد الموت .
ثم شرع المصنف في بيان ما أخبر به -صلى الله عليه وسلم- للأحوال التي تعرض بعد الموت، فقال: (وأوله سؤال منكر ونكير) ويتقدم على ذلك وجوب اعتقاد أن ملك الموت يقبض روح كل ذي روح، أي: يخرجها ويأخذها بإذن ربه من مقرها، أو من يد أعوانه، والمراد جميع أرواح الثقلين والملائكة والبهائم والطير وغيرهم، ولو بعوضة، بل قيل: حتى روح نفسه، والأرواح أجسام خفيفة متخللة في البدن، تذهب الحياة بذهابها، وقيل: جسم لطيف مشتبك بالبدن اشتباك الماء بالعود الأخضر، وبه جزم النووي، وملك الموت اسمه عزرائيل، ومعناه عبد الجبار، عظيم وهائل المنظر، رأسه في السماء العليا، ورجلاه في تخوم الأرض السفلى، ووجهه مقابل اللوح المحفوظ، والخلق بين عينيه، وله أعوان بعدد من يموت، يترفق بالمؤمن، ويأتيه في صورة حسنة، ومن ذلك أيضا وجوب اعتقاد أن الأجل بحسب علم الله تعالى واحد لا تعدد فيه، وأن كل مقتول ميت بسبب انقضاء عمره، وعند حضور أجله في الوقت الذي علم الله في الأزل حصول موته فيه بإيجاده تعالى وخلقه من غير منع ومدخلية للقاتل فيه، لا مباشرة ولا توليدا، وأنه لو لم يقتل لجاز أنه يموت في ذلك الوقت، وألا يموت، من غير قطع بامتداد العمر، ولا بالموت بدل القتل .
ثم يجب اعتقاد أن السؤال في القبر حق، أي أن الموتى تسأل في قبورها بعد تمام الدفن، وعند انصراف الناس، بأن يعيد الله الروح إلى الميت جميعه وتكمل حواسه فيرد إليهم ما يتوقف عليه فهم الخطاب، ويتأتى معه الجواب من الحواس، والعلم والعقل؛ حتى يسأله الملكان (وهما شخصان) أسودان أزرقان (مهيبان هائلان) أي: فظان غليظان، شعورهما إلى أقدامهما، تلمع النار بين أنيابهما، يشقان الأرض بهما، كلامهما كالرعد القاصف، وأعينهما كالبرق الخاطف، بأيديهما مقامع من حديد (يقعدان العبد في قبره) أي: بعد تمام دفنه، هذا في حق المقبور، وفي غيره بعد الموت [ ص: 37 ] (سويا) تاما (ذا روح وجسد) كامل الحواس، وأفتى الشمس الرملي بأن السؤال على الرأس وحده إن انفصل؛ لوجود أدلة النطق، وأفتى الحافظ السيوطي بأن الميت إذا نقل لا يسأل حتى يدفن، قال بعضهم: ومثله المصلوب .
(فيسألانه) أو أحدهما، يترفقان بالمؤمن، وينتهران المنافق والكافر، ولو تمزقت أعضاؤه أو أكلته السباع في أجوافها، وكذا الغريق والحريق، وإن ذري في الريح (عن التوحيد) أي: وحدانية الله تعالى (والرسالة) أي: رسالة الأنبياء -عليهم السلام- وما بلغوا، وقال nindex.php?page=showalam&ids=11963القرطبي: اختلفت الأحاديث في كيفية السؤال والجواب، وذلك بحسب الأشخاص، فمنهم من يسأل عن بعض اعتقاداته، ومنهم من يسأل عن كلها. اهـ .
وهذا السؤال خاص بهذه الأمة، والمراد بها أمة الدعوة، فيدخل المؤمنون والمنافقون والكافرون، وورد في حق جماعة أنهم لا يسألون، كالمرابط والشهيد بأنواعه، والمراد به التخفيف، لا مطلقا، وفي سؤال الأطفال الوقف، وجزم السيوطي بعدم السؤال؛ لعدم تكليفهم، كالملائكة، لا الجن (ويقولان له) كل أحد بلسانه، أو بالسريانية، أو بالعربية مطلقا، ثلاثة أقوال (من ربك؟) الذي خلقك وسواك ورزقك (وما دينك؟) الذي كنت عليه (ومن نبيك؟) الذي أرسل إليك وأمرت باتباعه، ونقل السيوطي أن السؤال يقع بالسريانية، وهذه صورته "اتره كره اترح سالح حين"، وهي خمس كلمات، تعريبها: "اتره" قم يا عبد الله، "كاره" إلى ملائكة الله، "اترح" ما كنت تصنع في دار الدنيا؟ "سالح" من ربك؟ وما دينك وعقيدتك؟ "حين" ما هذا الذي مت عليه .
(وهما فتانا القبر) مثنى فتان، مبالغة في التفتين والامتحان، وقد يلحق بهما غيرهما من الصور الهائلة، فيقال للكل: فتانات، أعاذنا الله منها (وسؤالهما أول فتنة بعد الموت) يحصل في القبر، أي: هذا السؤال هو نفسه الفتنة، وهي الاختبار والامتحان بالنظر إلى الميت، أو إلينا، أو إلى الملائكة؛ لإحاطة علمه بكل شيء .