من المخالطة التواضع . فإنه من أفضل المقامات ولا يقدر عليه في الوحدة، وقد يكون الكبر سببا في اختيار العزلة ، فقد روي في الإسرائيليات أن حكيما من الحكماء صنف ثلثمائة وستين مصحفا في الحكمة حتى ظن أنه قد نال عند الله منزلة، فأوحى الله إلى نبيه: قل لفلان: إنك قد ملأت الأرض نفاقا، وإني لا أقبل من نفاقك شيئا. قال: فتخلى وانفرد في سرب تحت الأرض، وقال: الآن قد بلغت رضا ربي. فأوحى الله إلى نبيه: قل له: إنك لن تبلغ رضاي حتى تخالط الناس، وتصبر على أذاهم .
فخرج فدخل الأسواق وخالط الناس وجالسهم وواكلهم وأكل الطعام بينهم ومشى في الأسواق معهم. فأوحى الله تعالى إلى نبيه: الآن قد بلغ رضاي . .
فكم من معتزل في بيته وباعثه الكبر ومانعه عن المحافل أن لا يوقر أو لا يقدم، أو يرى الترفع عن مخالطتهم أرفع لمحله وأتقى لطراوة ذكره بين الناس وقد يعتزل خيفة من أن تظهر مقابحه لو خالط فلا يعتقد فيه الزهد والاشتغال بالعبادة فيتخذ البيت سترا على مقابحه إبقاء على اعتقاد الناس في زهده وتعبده من غير استغراق وقت الخلوة بذكر أو فكر، وعلامة هؤلاء أنهم يحبون أن يزاروا ولا يحبون أن يزوروا، ويفرحون بتقرب العوام والسلاطين إليهم واجتماعهم على بابهم وطرقهم وتقبيلهم أيديهم على سبيل التبرك، ولو كان الاشتغال بنفسه هو الذي يبغض إليه المخالطة وزيارة الناس لبغض إليه زياراتهم له. كما حكيناه عن الفضيل حيث قال: وهل جئتني إلا لأتزين لك وتتزين لي . .
وعن nindex.php?page=showalam&ids=15665حاتم الأصم أنه قال للأمير الذي زاره: حاجتي أن لا أراك ولا تراني .
فمن ليس مشغولا مع نفسه بذكر الله فاعتزاله عن الناس سببه شدة اشتغاله بالناس؛ لأن قلبه متجرد للالتفات إلى نظرهم إليه بعين الوقار والاحترام . .
والعزلة بهذا السبب جهل من وجوه: أحدها: أن التواضع والمخالطة لا تنقص من منصب من هو متكبر بعلمه أو دينه إذ كان علي رضي الله عنه يحمل التمر والملح في ثوبه ويده ويقول: .
لا ينقص الكامل من كماله ما جر من نفع إلى عياله
.
وكان nindex.php?page=showalam&ids=3أبو هريرة وحذيفة وأبي nindex.php?page=showalam&ids=10وابن مسعود رضي الله عنهم يحملون حزم الحطب وجرب الدقيق على أكتافهم، وكان nindex.php?page=showalam&ids=3أبو هريرة رضي الله عنه يقول وهو والي المدينة والحطب على رأسه: طرقوا لأميركم . .
وكان nindex.php?page=showalam&ids=35الحسن بن علي رضي الله عنهما يمر بالسؤال وبين أيديهم كسر فيقولون هلم إلى الغداء يا ابن رسول الله فكان ينزل ويجلس على الطريق ويأكل معهم ويركب ويقول: إن الله لا يحب المستكبرين .
ولذلك قال nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي ليونس بن عبد الأعلى
: والله ما أقول لك إلا نصحا: إنه ليس إلى السلامة من الناس من سبيل، فانظر ماذا يصلحك فافعله . ولذلك قيل:
من راقب الناس مات غما وفاز باللذة الجسور
. ونظر سهل إلى رجل من أصحابه فقال له: اعمل كذا وكذا، لشيء أمره به، فقال: يا أستاذ، لا أقدر عليه لأجل الناس، فالتفت إلى أصحابه وقال: لا ينال عبد حقيقة من هذا الأمر حتى يكون بأحد وصفين: عبد تسقط الناس من عينه فلا يرى في الدنيا إلا خالقه وأن أحدا لا يقدر على أن يضره ولا ينفعه، .
(وهو من أفضل المقامات) عند الصوفية (ولا يقدر عليه في الوحدة) لأن التواضع تفاعل يقتضي الاثنينية (وقد يكون الكبر سببا في إيثار العزلة فقد ورد في الإسرائيليات) أي: في الأخبار المروية عن بني إسرائيل (أن حكيما من الحكماء) الإسرائيلية (صنف ثلاثمائة وستين مصحفا من الحكمة) أودع في كل من تلك المصاحف طرائف الحكمة الإلهية (حتى ظن أنه نال عند الله منزلة) بسبب ذلك (فأوحى الله تعالى إلى نبيه) الذي في ذلك العصر -عليه السلام- (أن قل لفلان إنك قد ملأت الأرض نفاقا) وهو الكلام الكثير (وإني لا أقبل من نفاقك شيئا قال) فأخبره النبي بذلك (فتخلى وانفرد) عن الناس (في سرب) محركة (تحت الأرض) كالسرداب (قال الآن بلغت مخبرتي فأوحى) الله (إلى نبيه) أن (قل له إنك لن تبلغ رضاي حتى تخالط الناس وتصبر على أذاهم) وتتحمل جفاهم (فخرج) من السرب (ودخل الأسواق) حيث مجتمع الناس (وخالط العامة وجالسهم وواكلهم وأكل الطعام بينهم ومشى في الأسواق معهم فأوحى الله إلى نبيه) أن قل له (الآن قد بلغت رضاي) هكذا نقله صاحب القوت. وتقدم ذلك أيضا كتاب العلم .
(فكم معتزل في بيته وباعثه) على عزلته (التكبر) على إخوانه (ومانعه عن المحافل) والمشاهد (أن لا يوقر ولا يقدم) ولا ينظر إليه بالاحترام فتنازعه نفسه من الحضور فيها (أو يرى الترفع عن مخالطتهم أرفع لمحله وأبقى لطراوة ذكر الناس) بأن يثنوا عليه في كل آن (وقد يعتزل خيفة من أن تظهر مقابحه) ومعايبه (لو خالط الناس فلا يعتقد فيه الزهد) في الدنيا (والاشتغال بالعبادة) فينقص مقامه بين أعينهم (فيتخذ من البيت سترا على مقابحه إبقاء على اعتقاد الناس في زهده وتعبده من غير استغراق وقت الخلوة بذكر أو فكر) أو مراقبة (وعلامة هؤلاء أنهم يحبون أن يزاروا ولا يزوروا) وتأتيهم الناس ولا يأتوهم (ويفرحون بتقرب العامة والسلاطين إليهم واجتماعهم على باب أحدهم وطريقه) الذي يخرج إليه من البيت إلى المسجد (وتقبيلهم أيديهم على سبيل التبرك ولو كان الاشتغال بنفسه هو الذي يبغض إليه المخالطة وزيارة الناس لبغض إليه زيارتهم له) ومجيئهم على بابه (كما حكيناه عن الفضيل) بن عياض -رحمه الله تعالى- حيث قال للذي زاره في المسجد الحرام (وهل جئتني إلا لأتزين لك وتتزين لي؟! وتقدم قريبا، وعن حاتم الأصم ) -رحمه الله تعالى- (أنه قال للأمير الذي زاره) وقال له: هل لك من حاجة نقضيها؟ قال: (قال: حاجتي إليك أن لا أراك ولا تراني) .
وتقدم أيضا قريبا (فمن ليس مشغولا مع نفسه بذكر الله تعالى اعتزاله عن الناس سببه شدة اشتغاله بالناس؛ لأن قلبه يتجرد للالتفات إلى نظرهم إليه بعين الوقار والاحترام، والعزلة لهذا السبب جهل) محض (من وجهين أحدهما أن التواضع والمخالطة لا تنقص من منصب من هو متكبر بعلمه أو دينه؛ إذ كان على رضا الله عنه) يدخل السوق (ويحمل التمر) والسويق (والملح) وأشباه ذلك (في ثوبه) تارة (وفي يده) أخرى (ويقول:
لا ينقص الكامل من كماله ما جر من نفع إلى عياله
)
وهو بيت من الرجز أشار بذلك أن مثل هذا لا ينقص من مروءة الإنسان بل هو آية دالة على كماله لما فيه [ ص: 371 ] من التواضع (وكان أبو هريرة وحذيفة) بن اليمان ( وابن مسعود -رضي الله عنهم- يحملون حزم الحطب وجرب الدقيق) جمع جراب ككتاب وكتب (على أكتافهم) من السوق إلى البيت ولا يعدوها منقصة (وكان أبو هريرة ) -رضي الله عنه- (يقول وهو وال) على ( المدينة ) نيابة (والحطب على رأسه: طرقوا) أي: أوسعوا (الطريق لأميركم) مع أنه مطيق على أن يأمر أحدا من خدمه أن يحمله (وكان -صلى الله عليه وسلم- يشتري الشيء) من السوق (فيحمله إلى بيته بنفسه فيقول صاحبه) الذي معه (أعطني) يا رسول الله (أحمله) عنك (فيقول: nindex.php?page=hadith&LINKID=937414صاحب الشيء أحق بحمله ) لأنه أعون له على التواضع وأنقى للكبر، وبيان الأحقية في هذا لكل من المتصاحبين حقا على الآخر، وصاحب الشيء أحق لكونه صاحبه، وصاحب هذا الصاحب له حق الخدمة، فطلب الوفاء به، وإنما منعه مع أن في خدمته غاية الشرف والثواب لأنه شرع فبين كل فعل في محله تشرفا .
قال العراقي: رواه أبو يعلى من حديث أبي هريرة بسند ضعيف في حمله السراويل الذي اشتراه اهـ .
قال الحافظ العراقي وابن حجر والسخاوي : ضعيف بل بالغ ابن الجوزي فحكم بوضعه، وقال إن فيه يوسف ابن زياد عن عبد الرحمن الإفريقي ولم يروه عنه غيره، ورده الحافظ السيوطي في تعقباته عليه بأنه لم ينفرد به يوسف فقد أخرجه البيهقي في الشعب والأدب من طريق حفص بن عبد الرحمن، ورد عليه بأن ابن حبان قال: حفص هذا يروي الموضوعات عن الثقات، فهو كاف في الحكم بوضعه .
وأخرجه الديلمي من حديث أبي بكر الصديق رفعه: من اشترى لعياله شيئا ثم حله إليهم حط عنه ذنب سبعين سنة . وهو ضعيف أيضا. وقال السخاوي : أحسبه باطلا، والله أعلم. (وكان الحسن بن علي -رضي الله عنهما- يمر على السؤال) في الطريق جمع سائل (وبين أيديهم كسر) ملقاة على الأرض فيسلم عليهم (فيقولون: هلم إلى الغداء يا ابن رسول الله فكان) يثني رجليه على بغلته (وينزل ويجلس) معهم (على الطريق) على الأرض (ويأكل معهم ثم يركب ويقول: إن الله لا يحب المستكبرين) ثم يدعوهم بعد ذلك إلى منزله فيقول للخادم: هلمي ما كنت تدخرين فيأكلون معه، هكذا أورده صاحب القوت .
(الوجه الثاني: أن الذي شغل نفسه بطلب رضا الناس عنه وتحسين اعتقادهم فيه مغرور، ولأنه لو عرف الله حق معرفته علم أن الخلق) ولو اجتمعوا (لا يغنوا عنه من الله شيئا وأن ضرره ونفعه بيد الله) -عز وجل- ( فلا نافع ولا ضار سواه تعالى ) ولفظ القوت: فلو أيقن البائس المتصنع للخلق الأسير في أيديهم الرهين بنظرهم أن الخلق لا ينقصون من رزق ولا يزيدون في عمره ولا يرفعون عند الله ولا يضعون لديه وأن هذا كله بيد الله -عز وجل- لا يملكه سواه، ولو سمع خطاب المولى لاستراح من جهد البلاء؛ إذ يقول الله -عز وجل-: إن الذين تدعون من دون الله عباد أمثالكم اهـ .
(ولذلك قال الشافعي -رضي الله عنه- ليونس بن عبد الأعلى ) بن ميسرة بن حفص بن حبان الصوفي كنيته أبو موسى وأبو إسحاق وأمه فليحة بنت أبان بن زياد بن نافع التجيبي، مولده في ذي الحجة سنة 170 وتفقه به، وعرف بصحبته وروى عنه الحديث وعن ابن عيينة وابن وهب والوليد بن مسلم ومعن بن عيسى وأبي ضمرة أنس بن عياض وجماعة، وعنه مسلم والنسائي وابن ماجه وبقية بن مخلد وأبو زرعة وأبو حاتم وابن خزيمة والطحاوي وآخرون، وكان قرأ القرآن على ورش وغيره وأقرأ الناس، قرأ عليه ابن جرير الطبري وجماعة، انتهت إليه رياسة العلم بمصر، وقال أبو عمر الكندي: كان يستسقى بدعائه، مات في ربيع الآخر سنة 264 ، وثقه النسائي وابن حبان والطحاوي (والله ما لا أقول لك إلا نصحا إنه ليس إلى السلامة من الناس من سبيل) فانظر ماذا يصلحك فافعله .
هكذا أورده صاحب القوت، وحدثونا عن يونس بن عبد الأعلى قال: قال لي الشافعي فساقه، وهو في كتاب العزة للخطابي بلفظ: يا أبا إسحاق رضا الناس غاية لا تدرك ليس إلى السلامة من الناس من سبيل فانظر ما فيه صلاح نفسك الزمه ودع الناس وما هم فيه (ولذلك قيل) في معناه:
(
من راقب الناس مات غما وفاز باللذة الجسور)
وفي نسخة: بالراحة، بدل: باللذة، هكذا أورده صاحب القوت (ونظر) أبو محمد (سهل) بن عبد الله التستري -رحمه الله تعالى- (إلى واحد من أصحابه) ولفظ القوت: إلى رجل من الفقراء (فقال: اعمل لكذا وكذا فقال: يا أستاذ، لا أقدر عليه لأجل الناس، فالتفت إلى أصحابه وقال: لا ينال عبد حقيقة من هذا الأمر حتى يكون بأحد وصفين: عبد يسقط الناس من عينه فلا يرى في الدنيا) ولفظ القوت في الدار (إلا خالقه وأن أحدا لا يقدر على أن يضره ولا ينفعه، أو عبد سقطت) ولفظ القوت: أسقط (نفسه عن قلبه فلا يبالي في أي حال يرونه) هكذا أورده صاحب القوت .
وقال أيضا بعدما أورد الآيتين المذكورتين إن الذين تعبدون من دون الله الآية، وكذا قوله: إن الذين تدعون من دون الله الآية فلو عقل ذلك لاطرح الخلق عن قلبه اشتغالا بقلبه ولأعرض عن الناس بهمه نظرا منه إلى مهمه وأظهره له وكشف أمره تقويا بربه وثقته بعمله، فلم يبال أن يراه الناس على كل حال يراه فيه مولاه، إذا كان لا يعبد إلا إياه ولا يضره ولا ينفعه سواه فعمل ما يصلحه، وإن كان عند الناس يضعه وسعى فيما يحتاج إليه وإن كان عند المولى يزري عليه ولكن ضعف يقينه فقوي إلى الخلق نظره وأحب أن يستر عنهم خبره لإثبات المنزلة عندهم ولاستخراج الجاه لنفسه فيفخر الخيلاء والعجب فموه بحال على من لا حال له، وهم بمقام عند من ليس له مقام، واعتقدوا فضله بذلك لنقصهم وتوهموا به علمه لجهلهم، ولو صدقوا الله لكان خيرا لهم .