والعقل الغريزي ليس كافيا في تفهم مصالح الدين والدنيا .
وإنما تفيدها التجربة والممارسة ولا خير في عزلة من لم تحنكه التجارب فالصبي إذا اعتزل بقي غمرا جاهلا بل ينبغي أن يشتغل بالتعلم ويحصل له في مدة التعلم ما يحتاج إليه من التجارب ويكفيه ذلك ويحصل بقية التجارب بسماع الأحوال ولا يحتاج إلى المخالطة .
ومن أهم التجارب أن يجرب نفسه وأخلاقه وصفات باطنه وذلك لا يقدر عليه في الخلوة فإن كل مجرب في الخلاء يسر وكل غضوب أو حقود أو حسود إذا خلا بنفسه لم يترشح منه خبثه وهذه الصفات مهلكات في أنفسها يجب إماطتها وقهرها ولا يكفي تسكينها بالتباعد عما يحركها؛ .
فمثال القلب المشحون بهذه الخبائث مثال دمل ممتلئ بالصديد والمدة وقد لا يحس صاحبه بألمه ما لم يتحرك أو يمسه غيره فإن لم يكن له يد تمسه أو عين تبصر صورته ولم يكن من يحركه ربما ظن بنفسه السلامة ولم يشعر بالدمل في نفسه وأعتقد فقده ولكن لو حركه محرك أو أصابه مشرط حجام لانفجر منه الصديد وفار فوران الشيء المختنق إذا حبس عن الاسترسال فكذلك ، القلب المشحون بالحقد والبخل والحسد والغضب وسائر الأخلاق الذميمة إنما تتفجر منه خبائثه إذا حرك .
وعن هذا كان السالكون لطريق الآخرة الطالبون لتزكية القلوب يجربون أنفسهم .
فمن كان يستشعر في نفسه كبرا سعى في إماطته حتى كان بعضهم يحمل قربة ماء على ظهره بين الناس أو حزمة حطب على رأسه ويتردد في الأسواق ليجرب نفسه بذلك ، فإن غوائل النفس ومكايد الشيطان خفية قل من يتفطن لها؛ ولذلك حكي عن بعضهم أنه قال أعدت : صلاة ثلاثين سنة مع أني كنت أصليها في الصف الأول ولكن تخلفت يوما بعذر فما وجدت موضعا في الصف الأول فوقفت في الصف الثاني فوجدت نفسي تستشعر خجلة من نظر الناس إلي وقد سبقت إلى الصف الأول ، فعلمت أن جميع صلواتي التي كنت أصليها كانت مشوبة بالرياء ممزوجة بلذة نظر الناس إلى ورؤيتهم إياي في زمرة السابقين إلى الخير .
(الفائدة السابعة)
(التجارب فإنها تستفاد منها من المخالطة للخلق ومن مجاري أحوالهم المختلفة والعقل الغريزي) المركوز في غريزة الإنسان (ليس كافيا في تفهم مصالح الدين والدنيا) لعدم إحاطته بأفرادها (وإنما تفيدها التجربة والممارسة) والمزاولة وقتا بعد وقت (ولا خير في عزلة من لم تحنكه التجارب) وأصل التحنيك أن يدلك حنك الصبي بنحو تمر وغيره (فالصبي إذا اعتزل) ولم يخالط (بقي غمرا) بالضم (جاهلا) لم يدر شيئا (بل ينبغي أن يشتغل بالتعلم) من الشيوخ (ويحصل له في مدة التعلم ما يحتاج إليه من التجارب ويكفيه ذلك) ولو كان خليلا (ويحصل بقية التجارب بسماع الأحوال) من الأفواه .
(ولا يحتاج إلى المخالطة، ومن أهم التجارب أنه يجرب نفسه وأخلاقه الظاهرة وصفات باطنه وذلك لا يقدر عليه في الخلوة فإن كل مجرب بالخلاء يسر) ويكتم (وكل غضوب أو حسود أو حقود إذا خلا ونفسه لم يترشح منه خبثه) من غضب وحقد وحسد (وهذه الصفات مهلكات في نفسها) أي: في حد ذاتها (يجب إماطتها) أي: إزالتها من أصلها وتبديلها بما يضادها (أو قهرها) فتسكن مع بقاء أصلها (ولا يكفلا تسكينها بالتباعد عما يحركها؛ فمثال القلب المشحون بهذه الخبائث) أي: الصفات الخبيثة (مثل دمل) كسكر، وهو (ممتلئ بالصديد) وهو الدم المختلط بالقبح، وفي نسخة: بالقبيح والمدة (وقد لا يحس صاحبه بألمه ما لم يتحرك أو يلمسه غيره) بيده (فإن لم تكن له يد تمسه أو عين تبصر صورته ولم يكن معه من يحركه أو يمسه) وفي نسخة: أو يمسكه (ربما ظن بنفسه السلامة ولم يشعر بالدمل في نفسه واعتقد فقده) من أصله (ولكن لو حركه محرك أو أصابه مشرط حجام) وهو الموسى (انفجر منه) ذلك (الصديد) وفي نسخة: القبح (وفار فوران الشيء المحتقن) أي: المحتبس (إذا حبس عن الاسترسال، فكذا القلب المشحون بالبخل والحسد والحقد والغضب وسائر الأخلاق الذميمة إنما تنفجر منه خبائثه إذا حرك) وما لم تحرك فهي ساكنة أبدا (ومن هذا كان السالكون لطريق الآخرة) من المريدين الصادقين [ ص: 374 ] (الطالبون لتزكية القلوب) من المستعدين (يجربون أنفسهم) ويمتحنوها (فمن كان يستشعر في نفسه كبرا سعى في إماطته) مهما أمكنه (حتى كان بعضهم يحمل قربة ماء أو نحوها على ظهره بين الناس) يسقيهم (أو حزمة حطب) يأتي بها إلى الجبل (على رأسه ويتردد في الأسواق) كأنه يبيعها (ليجرب نفسه هل تثبت لذلك أم لا، فإذا اطمأنت ذهب عنها) وصف الكبر ومنهم من كان يحمل مزبلة على رأسه في يوم مطر فيتساقط عليه من ذلك البلل ويدور بها المواضع التي يعتقده أهلها يريد بذلك قهر نفسه .
(فإن غوائل النفس ومكايد الشيطان خفية قل من يتفطن لها؛ ولذلك حكي عن بعضهم أنه قال: أعدت صلاة ثلاثين سنة) أي: المفروضة (مع أني كنت أصليها) في الجماعة، وفي نسخة: وذلك لأني كنت أصليها (في الصف الأول) على يمين الإمام (ولكن تخلفت يوما لعذر) عرض (فما وجدت لي موضعا في الصف الأول فوقفت في الصف الثاني فوجدت نفسي تستشعر خجلة من نظر الناس إلي وقد سبقت بالصف الأول، فعلمت أن جميع صلاتي كانت مشوبة بالرياء ممزوجة بلذة نظر الناس إلى رؤيتهم إياي في زمرة السابقين إلى الخير) .