ووظائفها وبما يسري إليه من مشاهدة الصالحين ومجالستهم وسيماهم وسماعهم وهيآتهم في الخضوع لله عز وجل والخوف منه والاستكانة له فيكون أول التلقين ، كإلقاء بذر في الصدر ، وتكون هذه الأسباب كالسقي والتربية له حتى ينمو ذلك البذر يقوى ويرتفع شجرة طيبة راسخة أصلها ثابت وفرعها في السماء .
وينبغي أن يحرس سمعه من الجدل والكلام غاية الحراسة فإن ما يشوشه الجدل أكثر مما يمهده وما يفسده أكثر مما يصلحه بل تقويته بالجدل تضاهي ضرب الشجرة بالمدقة من الحديد رجاء تقويتها بأن تكثر أجزاؤها وربما يفتتها ذلك ويفسدها ؛ وهو الأغلب .
والمشاهدة تكفيك في هذا بيانا فناهيك بالعيان برهانا .
(و) من (وظائفها) اللائحة على ظاهره وباطنه، فمن كثرت صلاته بالليل حسن وجهه بالنهار، أي: وجه قلبه (وبما يسري إليه من) بركات (مشاهدة الصالحين) من عباد الله (ومجالستهم) وملاحظتهم ومؤانستهم وآدابهم (وسيماهم) الظاهر المعمور بالأنوار (وهيئاتهم) في حركاتهم وسكناتهم (في الخضوع لله تعالى) بسكون الجوارح، وتلقي الواردات الإلهية (والخوف منه) والاستشعار بهيبته (والاستكانة) أي: التذلل وشغل اللسان بذكره، وحفظ القلب عن حضور ما سواه فيه (فيكون من أول اليقين، كإلقاء بذر في) أرض (الصدر، وتكون هذه الأسباب) المذكورة بجملتها (كالسقي والتربية له) ، فشواهد القرآن والحديث بمنزلة الماء لذلك البذر، ومنها حياته الأصلية؛ إذ لولاها لذوى، وأنوار العبادات ومجالسة الأخيار بمنزلة التربية له بحفظه عما يضره (حتى ينمو ذلك البذر) نموا ظاهرا (ويقوى) أصله (ويرتفع) على ساق المتانة (شجرة طيبة) نافعة (راسخة) قوية (أصلها ثابت) في [ ص: 44 ] أرض القلب (وفرعها) الزاكي مرتفع (في السماء) نجتني منها ثمرات المعارف والاهتداء، (وينبغي أن يحرس) أي: يصان (سمعه) في أثناء ذلك (من) طرق (الجدال) والمخاصمات (والكلام) والمناقضات (غاية الحراسة) على قدر الإمكان .
(فإن ما يشوشه الجدل) والكلام (أكثر مما يمهده) ويوطنه (وما يفسده أكثر مما يصلحه) ؛ نظرا إلى ما يودع في قلبه شبها للخصوم، فربما أنها لا تزول وتبقى آثارها فيتعلق قلبه بها، فهذا أول فساده له، وأما ما يترتب عليه بعد ذلك فأكثر من أن يذكر (بل تقويته بالجدل يضاهي) أي: يشابه (ضرب الشجرة بالمدقة) بكسر الميم (من الحديد) أو بإيداع المسامير فيها (رجاء تقويتها؛ فإن تكسير أجزائها) بآلات الحديد (ربما تفتتها وتكسرها) وفي نسخة: ويفسدها، أي: يكون سببا لتكسير كلها وإعدامها بالمرة (وهو الأغلب) في الأحوال (والمشاهدة تكفيك في هذا بيانا) واضحا (وناهيك بالعيان) أي: المعاينة (برهانا) جليا لا يحتاج إلى تقريره ببرهان آخر، قال المصنف في "إلجام العوام": فإن قلت: إن لم ينصرف قلب العامي عن التفكر لتشوقه إلى البحث فما طريقه؟ فأقول: طريقه أن يشغل نفسه بالعبادة وقراءة القرآن والذكر، وإن لم يقدر فبعلم آخر لا يناسب هذا الجنس، من لغة أو نحو أو حساب أو طب أو فقه، فإن لم يمكنه فبحرفة أو صناعة، ولو الحراثة، أو الحياكة، فإن لم يقدر فبلعب أو لهو، فإن لم يقدر يحدث نفسه هول القيامة والحشر والنشر والحساب، وكل ذلك خير له من الغوص في هذا البحر البعيد عمقه، العظيم خطره وضرره، بل لو اشتغل العامي باللهو لا بالعبادات البدنية فربما كان أسلم له من أن يخوض في البحث عن معرفة الله تعالى؛ فإن ذلك عاقبته الفسق، وهذا عاقبته الشرك، فإن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء .
فإن قلت: العامي إذا لم تستكن نفسه إلى الاعتقادات الدينية إلا بدليل فهل يجوز أن يذكر له الدليل؟ فإن جوزت ذلك فقد رخصت له في التفكر والنظر، وأي فرق بين هذا النظر وغيره، وإن منعت منه فكيف تمنعه ولا يتم إيمانه إلا به؟ فالجواب: إني أجوز له أن يسمع الدليل على معرفة الخالق ووحدانيته، وعلى صدق الرسول، وعلى اليوم الآخر، وألا يماري فيه إلا مراء ظاهرا، ولا يتفكر فيه إلا تفكرا سهلا جليا، ولا يمعن في التفكر، ولا يوغل فيه غاية الإيغال في البحث .
وأدلة هذه الأمور الأربعة مذكورة في القرآن، وهي قريب من خمسمئة، جمعناها في جواهر القرآن، فلا ينبغي أن يزاد عليه، فإن قيل: هذه هي الأدلة، ولا يمنعون عنها، وكل ذلك يدرك بنظر العقل وتأويله، فإن فتح للعامي في باب النظر فليفتح مطلقا أو يسد مطلقا بطريق النظر، وليكلف ليقلد من غير نظر. فالجواب: إن الأدلة تنقسم إلى ما يحتاج فيه إلى تفكر وتدقيق خارج عن تدقيق العامي وقدرته، وإلى ما هو جلي سابق إلى الأفهام ببادئ الرأي، وأقل النظر، بل يشترك كافة الناس بسهولة، لا خطر فيه، وما يفتقر إلى التدقيق، فليس على قدم وسعة؛ فأدلة القرآن مثل الغذاء، ينتفع به كل إنسان، وأدلة المتكلمين مثل الدواء ينتفع به آحاد الناس، ويستضر به الأكثرون، بل أدلة القرآن كالماء، ينتفع به الصبي والرجل القوي، وسائر الأدلة كالأطعمة التي ينتفع بها الأقوياء مرة، ويمرضون بها أخرى، ولا ينتفع بها الصبيان أصلا؛ ولهذا قلنا: إن أدلة القرآن أيضا ينبغي أن يصغي إليها إصغاءه إلى كلام جلي، ولا يماري فيه إلا مراء ظاهرا، ولا يكلف نفسه تدقيق الفكر وتحقيق النظر .
وما أحدثه المتكلمون من تفسير وسؤال وتوجيه إشكال، ثم اشتغاله بحله، فهو بدعة وضرره في حق عموم الخلق ظاهر، فهذا الذي ينبغي أن يتوقى، والدليل على تضرر الخلق به المشاهدة والتجربة، وما ثار من الفتن بين الخلق، منذ نبغ المتكلمون وفشا صناعة الكلام، مع سلامة العصر الأول عن مثل ذلك، ودليله أنهم ما خاضوا في ذلك ولا سلكوا مسلك المتكلمين في تقسيماتهم وتدقيقاتهم، لا لعجز منهم عن ذلك، ولو علموا أن ذلك نافع لأطنبوا فيه وخاضوا في تحرير الأدلة خوضا يزيد على خوضهم في مسائل الفرائض .