فقس عقيدة أهل الصلاح والتقى من عوام الناس بعقيدة المتكلمين والمجادلين فترى اعتقاد العامي في الثبات كالطود الشامخ لا تحركه الدواهي والصواعق وعقيدة المتكلم الحارس واعتقاده بتقسيمات الجدل كخيط مرسل في الهواء تفيئه الرياح مرة هكذا ، ومرة هكذا إلا من سمع منهم دليل الاعتقاد فتلقفه تقليدا ، كما تلقف نفس الاعتقاد تقليدا إذ لا ، فرق في التقليد بين تعليم الدليل ، أو تعلم المدلول فتلقين الدليل شيء والاستدلال بالنظر شيء آخر بعيد عنه .
ثم الصبي إذا وقع نشؤه على هذه العقيدة إن اشتغل بكسب الدنيا لم ينفتح له غيرها ولكنه يسلم في الآخرة باعتقاد أهل الحق إذ لم يكلف الشرع أجلاف العرب أكثر من التصديق الجازم بظاهر هذه العقائد فأما البحث والتفتيش وتكلف نظم الأدلة فلم يكلفوه أصلا .
(فقس عقيدة أهل الصلاح) والرشد (والتقى من عوام الناس) وطائعها (بعقيدة المتكلمين والمجادلين) أي: علماء الكلام والجدل (فترى اعتقاد العامي) منهم (في [ ص: 45 ] الثبات) والرسوخ (كالطود الشامخ) أي: الجبل العالي الذي (لا تحركه الدواهي) أي: الشدائد (والصواعق) جمع صاعقة (و) ترى (عقيدة المتكلم الحارس اعتقاده بتقسيمات الجدل) وأنواعه بالأدلة العقلية الجدلية (كخيط مرسل في الهواء تفيئه) أي: تحركه (الريح) وفي نسخة الرياح (مرة هكذا، ومرة هكذا) فأمره إلى غاية الضعف (إلا من سمع منهم دليل الاعتقاد فتلقفه) ، أي: تلقاه وتلقنه (تقليدا، كما تلقف نفس الاعتقاد) كذلك (تقليدا، ولا فرق في التقليد بين تعلم الدليل، أو تعلم) نفس (المدلول) الذي أقيم عليه ذلك الدليل .
(فتلقين الدليل شيء والاستقلال بالنظر) والبحث فيه (شيء آخر بعيد عنه) ، وهذا ظاهر (ثم الصبي إذا وقع نشؤه) أي: مبدأ حاله (على هذه العقيدة) وتمكنت من قلبه (إن اشتغل بكسب الدنيا) كالتجارة والفلاحة وغيرهما من الصنائع والحرف (لم ينفتح له غيرها) ؛ لعدم انتقاله منها إلى حالة أخرى منها، (ولكنه سلم في الآخرة) عن المؤاخذة والمعاتبة (باعتقاد الحق) المطابق للواقع، أشار لذلك غير واحد من الأئمة (إذ لم يكلف الشرع أجلاف العرب) من أهل البوادي (أكثر من التصديق الجازم) القاطع (بظاهر هذه العقيدة) ثم تم، (فأما البحث والتفتيش) وإمعان النظر وإجالة الفكر (وتكلف نظم الأدلة) وتنسيق البراهين (فلم يكلفوه أصلا) ومن شاهد أحوال الأولين انكشف له الأمر .
الأولى: أن يعتقد أحدهم جميع أركان الإيمان، على ما يكمل عليه في الغالب، لكنه على طريق التقليد .
الثانية: ألا يعتقد إلا بعض الأركان مما فيه خلاف إذا انفرد ولم ينضف إليه في اعتقاده سواه، هل يكون به مؤمنا أو مسلما؟ مثل أن يعتقد وجود الواحد فقط، أو يعتقد أنه موجود حي لا غير، وأمثال هذه التقريرات، ويخلو عن اعتقاد باقي الصفات خلوا كاملا لا يعتقد فيها حقا ولا باطلا .
الثالثة: أن يعتقد الوجود كما قلناه، أو الوجود والوحدانية والحياة، وفي باقي الصفات على ما لا يوافق الحق بما هو بدعة أو ضلالة، وليس بكفر صراح .
والذي يدل عليه العلم ويستنبط من ظواهر الشرع أن أرباب الحالة الأولى -والله أعلم- على سبيل نجاة، ووصف إيمان وإسلام، وأما أهل الحالة الثانية فالمتقدمون من السلف لم يشتهر عنهم في صورة هذه المسألة ما يخرج صاحب هذه العقيدة عن حكم الإيمان والإسلام، والمتأخرون مختلفون، وكثير خاف أن يخرج من اعتقد وجود الله تعالى وإظهار الإقرار به ونبيه -صلى الله عليه وسلم- من الإسلام، ولا يبعد أن يكون كثير ممن أسلم من الأجلاف والرعيان وضعفاء النساء والأتباع، هذا عقده بلا مزيد عليه، ولو سئلوا واستكشفوا عن الله عز وجل: هل له إرادة أو كلام أو بقاء أو ما شاكل ذلك؟ وهل له صفات معنوية ليست هي هو، ولا هي غيره؟ ربما وجدوا يجهلون ذلك ولا يعقلون وجه ما يخاطبون به، وكيف يخرج من اعتقد وجود الله تعالى ووحدانيته تعالى مع الإقرار بالنبوة من حكم الإسلام؟ والنبي - صلى الله عليه وسلم- قد رفع القتال والقتل عنهم، فأوجب حكم الإيمان والإسلام لمن قال: لا إله إلا الله، وعقد عليها، وهذه الكلمة لا تقتضي أكثر من اعتقاد الوجود والوحدة في الظاهر، وعلى البديهة من غير نظر، ثم سمعنا عمن قالها في صدر الإسلام ولم يعلم بعدها إلا فرائض الوضوء والصلاة، وهيئات الأعمال البدنية، والكف عن أذى المسلم، ولم يبلغنا أنهم تدارسوا علم الصفات وأحوالها، ولا هل الله عالم بعلم أو عالم بنفسه، أو هو باق ببقاء، أو بنفسه، وأشباه هذه المعارف، ولا يدفع ظهور هذا إلا معاند أو جاهل بسيرة السلف وما جرى بينهم .
ويدل على قوة هذا الجانب في الشرع أن من استكشف منه على هذه الحالة، وتحققت منه، وأبى أن يذعن إلى تعلم ما زاد على ما عنده، لم يفت أحد بقتله ولا باسترقاقه، والحكم عليه بالخلود في النار عسير جدا وخطر عظيم مع ثبوت الشرع بأن من قال: لا إله إلا الله دخل الجنة. اهـ .