وإن أراد أن يكون من سالكي طريق الآخرة وساعده التوفيق حتى اشتغل بالعمل ولازم التقوى ونهى النفس عن الهوى واشتغل بالرياضة والمجاهدة انفتحت له أبواب من الهداية تكشف عن حقائق هذه العقيدة بنور إلهي يقذف في قلبه بسبب المجاهدة ؛ تحقيقا لوعده عز وجل إذ قال والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين وهو الجوهر النفيس الذي هو غاية إيمان الصديقين والمقربين وإليه الإشارة بالسر الذي وقر في صدر أبي بكر الصديق رضي الله عنه حيث فضل به الخلق .
وانكشاف ذلك السر بل تلك الأسرار له درجات بحسب درجات المجاهدة ودرجات الباطن في النظافة والطهارة عما سوى الله تعالى ، وفي الاستضاءة بنور اليقين وذلك كتفاوت الخلق في أسرار الطب والفقه وسائر العلوم ، إذ يختلف ذلك باختلاف الاجتهاد واختلاف الفطرة في الذكاء والفطنة وكما لا تنحصر تلك الدرجات فكذلك هذه .
المقصود منه (وإن أراد أن يكون من سالكي طريق الآخرة) وقطع عنه شواغل الدنيا (وساعده) مع ذلك (التوفيق) الإلهي (حتى اشتغل بالعمل) بما علمه (ولازم [ ص: 46 ] التقوى) والخشية (ونهى النفس) الأمارة (عن الهوى) عن كل ما تستلذه وتميل إليه (واشتغل بالرياضة) الشرعية (والمجاهدة) المعنوية (انفتحت له أبواب) وطرق (من الهداية) ما (تكشف عن حقائق) هذه (العقيدة) وتفصح عن رموزها وأسرارها (بنور إلهي يقذف في قلبه بسبب) تلك (المجاهدة؛ تحقيقا لوعده تعالى) السابق (إذ قال) في كتابه العزيز: ( والذين جاهدوا فينا ) أي: أعداءهم لأجلنا ( لنهدينهم سبلنا ) أي: الطرق الموصلة إلينا ( وإن الله لمع المحسنين ) بالنصر والإعانة والتوفيق .
وقد تقدم أقسام الجهاد وما يتعلق بهذه الآية في كتاب العلم (وهو الجوهر النفيس الذي هو غاية إيمان الصديقين والمقربين) أما المقربون فهم أرباب المقام الثالث في التوحيد، وهؤلاء رأوا علامة الحدوث في المخلوقات لائحة، وعاينوا حالات الافتقار إلى الله -عز وجل- واضحة، وسمعوا جميعها تدل على التوحيد راشدة ناصحة، ثم رأوا الله -عز وجل- بإيمان قلوبهم، وشاهدوه بغيب أرواحهم، ولاحظوا جلاله وجماله بخفي أسرارهم، وهم مع ذلك في درجات القرب على قدر حظ كل واحد منهم في اليقين وصفاء القلب، وأما الصديقون فهم أهل المرتبة الرابعة في التوحيد، وهؤلاء رأوا الله -عز وجل-، ثم رأوا الأشياء بعد ذلك، فلم يروا في الدارين غيره، ولا اطلعوا في الوجود على سواه، والمريدون في الغالب لا بد لهم أن يحلوا في المرتبة الثالثة، وهي توحيد المقربين، ومنها ينتقلون، وعليها يعبرون إلى المرتبة الرابعة، وأما المرادون فهم في الغالب مبتدئون بمقامهم الأخير، وهي المرتبة الرابعة، ومتمكنون فيها .
ومن أهل هذا المقام يكون القطب والأوتاد والبدلاء، ومن أهل المرتبة الثالثة يكون النقباء والنجباء والشهداء والصالحون (وإليه الإشارة بالسر الذي وقر في قلب أبي بكر الصديق -رضي الله عنه- حيث فضل به الخلق) لما تقدم في كتاب العلم: "ما سبقكم أبو بكر بكثرة صلاة ولا بكثرة صيام، ولكن بسر وقر في صدره"، (وانكشاف ذلك السر) الذي سبق حضرة الصديق به في سيرة الناس هو رؤية الله وحده، وعدم رؤية الأشياء قبله، (بل تلك الأسرار) التي تنشأ لأرباب المقام الثالث (له درجات) متنوعة لأهله في القرب والبعد (بحسب درجات المجاهدة و) بحسب (درجات الباطن في النظافة والطهارة) بتفريغه (عمن سوى الله، وفي الاستضاءة بنور اليقين) والمعرفة والعقل، وفي عمارة السر بمشاهدة المحبوب (وذلك كتفاوت الخلق في أسرار الطب والفقه وسائر العلوم، إذ يختلف ذلك باختلاف الاجتهاد) والرياضات (واختلاف الفطرة) التي فطر عليها (في الذكاء والفطنة) واتقاد الباطن، وانقسام كل منهم في الحالين كانقسام حفاظ القرآن مثلا، فمن حافظ لبعضه، ويكون ذلك البعض أكثر أو كثيرا منه، دون كماله، ومن حافظ لجميعه، لكنه متلعثم فيه، ومن حافظ له ماهر في تلاوته غير متوقف فيه (فكما لا تنحصر تلك الدرجات فكذلك هذه) ، وكل على قدر حظه منه، بما أتيح له من الأزل، وبسبب اختلاف تلك الدرجات اختلفت أحوالهم، والحاصل مما سبق من كلام المصنف أن الصبيان والعوام لا ينبغي أن يلقنوا بأكثر مما ذكر في العقيدة المختصرة؛ فإن فيها مقنعا لهم وزجرا عن الوقوع فيما يضرهم، وفي معنى العوام كل من لا يوصف بهذه الصفات، وهي التجرد لطلب المعرفة، والاستعداد لها، والخلو عن الميل إلى الدنيا والشهوات والتعصبات للمذاهب، وطلب المباهاة بالمعارف، والتظاهر بذكرها مع العوام، كما ستأتي الإشارة إليها في كلام المصنف فيما بعد .
أحدها التقديس، ثم التصديق، ثم الاعتراف بالعجز، ثم السكوت، ثم الكف، ثم الإمساك، ثم التسليم لأهل المعرفة .
أما التقديس فأعني به تنزيه الرب تعالى عن الجسمية وتوابعها، وأما التصديق فهو الإيمان بما قاله -صلى الله عليه وسلم-، وأن ما ذكره حق، وهو فيما قاله صادق، وأنه حق على الوجه الذي قاله وأراده، وأما الاعتراف بالعجز فهو أن يقر بأن معرفة مراده ليس على قدر طاقته، وأن [ ص: 47 ] ذلك ليس من شأنه وحرفته، وأما السكوت فإنه لا يسأل عن معناه، ولا يخوض فيه، ويعلم أن سؤاله عنه بدعة، وأنه في خوضه فيه مخاطر بدينه، وأنه يوشك أن يكفر إن خاض فيه من حيث لا يشعر، وأما الإمساك فهو ألا يتصرف في تلك الألفاظ الواردة بالتصريف والتبديل بلغة أخرى، والزيادة فيه، والنقصان منه، والجمع والتفريق، بل لا ينطق إلا بذلك اللفظ، وعلى ذلك الوجه من الإيراد والإعراب والتصريف والصيغة، وأما الكف فأن يكف باطنه عن البحث عنه والتفكر والتصرف فيه، وأما التسليم لأهله فأن يعتقد أن ذلك -وإن خفي عليه لعجزه- فقد لا يخفى على الرسول -صلى الله عليه وسلم- أو على الأنبياء أو على الصديقين والأولياء .
فهذه سبعة وظائف اعتقد كافة السلف وجوبها على كل العوام، لا ينبغي أن يظن بالسلف الخلاف في شيء منها .