كتاب آداب المعيشة وأخلاق النبوة وهو الكتاب العاشر من ربع العادات الثاني من كتب إحياء علوم الدين بسم الله الرحمن الرحيم .
الحمد لله الذي خلق كل شيء فأحسن خلقه وترتيبه وأدب نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم فأحسن تأديبه وزكى أوصافه وأخلاقه ثم اتخذه صفيه وحبيبه ووفق للاقتداء به من أراد تهذيبه وحرم عن التخلق بأخلاقه من أراد تخييبه وصلى الله على سيدنا محمد سيد المرسلين وعلى آله الطيبين الطاهرين وسلم كثيرا أما بعد .
فإن آداب الظواهر عنوان آداب البواطن وحركات الجوارح ثمرات الخواطر والأعمال نتيجة الأخلاق والآداب رشح المعارف وسرائر القلوب هي مغارس الأفعال ومنابعها وأنوار السرائر هي التي تشرق على الظواهر فتزينها وتجليها وتبدل بالمحاسن مكارهها ومساويها .
ومن لم يخشع قلبه لم تخشع جوارحه .
ومن لم يكن صدره مشكاة الأنوار الإلهية لم يفض على ظاهره جمال الآداب النبوية ، ولقد كنت عزمت على أن أختم ربع العادات من هذا الكتاب بكتاب جامع لآداب المعيشة لئلا يشق على طالبها استخراجها من جميع هذه الكتب ثم رأيت كل كتاب من ربع العادات قد أتى على جملة من الآداب فاستثقلت تكريرها وإعادتها فإن طلب الإعادة ثقيل ، والنفوس مجبولة على معاداة المعادات فرأيت أن أقتصر في هذا الكتاب على ذكر آداب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخلاقه المأثورة عنه بالإسناد فأسردها مجموعة فصلا فصلا محذوفة الأسانيد ليجتمع فيه مع جميع الآداب تجديد الإيمان وتأكيده بمشاهدة أخلاقه الكريمة التي شهد آحادها على القطع بأنه أكرم خلق الله تعالى وأعلاهم رتبة وأجلهم قدرا فكيف مجموعها ثم أضيف إلى ذكر أخلاقه ذكر خلقته ثم ذكر معجزاته التي صحت بها الأخبار ليكون ذلك معربا عن مكارم الأخلاق والشيم ومنتزعا عن آذان الجاحدين لنبوته صمام الصمم .
والله تعالى ولي التوفيق للاقتداء بسيد المرسلين في الأخلاق والأحوال وسائر معالم الدين فإنه دليل المتحيرين ومجيب دعوة المضطرين .
بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله على سيدنا ونبينا ومولانا محمد وآله وصحبه وسلم تسليما، الله ناصر كل صابر، الحمد لله مفيض المواهب على الإطلاق * مولي الرغائب بالإغداق * الذي لا خير إلا من يديه * ولا فضل إلا من لديه * أحمده سبحانه حمدا أستمطر به سحاب كرمه الغيداق * وأستغفره من ذنوب أحاطت إحاطة الرباق وعمت عموم الاستغراق * ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إله وضع الآجال وقسم الأرزاق * وأشهد أن سيدنا ومولانا محمدا عبده ورسوله * وحبيبه وخليله * صاحب النجيب والبراق * والطرف الكحيل والخد الأسيل * والثغر البراق * الذي بعثه لتتميم مكارم الأخلاق * وهدى به السبيل فلا يحيد عنه غير أهل الشقاق والنفاق * صلى الله عليه وعلى آله وصحبه * وورثته وحزبه * وسلم ما تحركت الأغصان بالأوراق * وهبت الرياح بالعشي والإشراق * وبعد فهذا شرح (كتاب آداب المعيشة وأخلاق النبوة) وهو العاشر من الربع الثاني من كتاب الإحياء لحجة الإسلام * مجدد دين الملك العلام * الإمام أبي حامد بن محمد بن محمد الغزالي قدس الله سره * وأفاض علينا بره * سلكت شعابه * ورضت صعابه * وخضت لججه * وأثبت حججه * حتى وضح السبيل * وصفا السلسبيل وراق الزلال * وامتدت الظلال * وعمرت ربوعه * وانبطت نبوعه * وبانت مساربه * وحليت مشاربه * وإلى الله أرغب في حسن التوفيق لمراضيه ومحابه * وأن يلحقني بالمنعم عليهم من صديقيه وأحبابه * إنه بكل فضل جدير * وعلى ما يشاء قدير * قال المصنف رحمه الله تعالى: (بسم الله الرحمن الرحيم) اقتداء بالقرآن واستفتاحا باسمه الذي هو فاتحة كل عنوان، واتباعا لخبر سيد ولد عدنان صلى الله عليه وسلم ما دارت الأزمان، (الحمد لله الذي خلق كل شيء فأحسن خلقه وترتيبه) أي جعل كل شيء في مرتبته وهو المعبر عنه بالإحسان أشار به إلى قوله تعالى: [ ص: 90 ] وخلق كل شيء فقدره تقديرا أي حده بحده الذي يوجد من حسن وقبح ونفع وضر وغيرهما حسبما اقتضت حكمته، (وأدب نبيه صلى الله عليه وسلم) بأن أعطاه رياضة النفس وحلاه بأحسن الأخلاق .
أخرج العسكري في الأمثال من طريق nindex.php?page=showalam&ids=15397النسائي عن أبي عمارة عن nindex.php?page=showalam&ids=8علي رضى الله عنه قال: قدم بنو نهد بن زيد على النبي صلى عليه وسلم فقالوا: أتيناك من غوراء تهامة وذكر خطبتهم، وما أجابهم النبي قال: فقلنا: يا نبي الله نحن بنو أب واحد ونشأنا في بلد واحد، وإنك لتكلم العرب بلسان ما نفهم أكثره، فقال: إن الله عز وجل أدبني فأحسن تأديبي، ونشأت في بني سعد بن بكر. والسدي ضعيف هذا .
وفي أدب الإملاء لأبي سعيد بن السمعاني من حديث nindex.php?page=showalam&ids=10ابن مسعود رفعه: إن الله أدبني فأحسن تأديبي، ثم أمرني بمكارم الأخلاق. وسنده منقطع .
وفي الدلائل لثابت السرقسطي أن أبا بكر رضي الله عنه قال: يا رسول الله ما رأيت أنعم منك فمن أدبك؟ قال: أدبني ربي ونشأت في بني سعد.
(وزكى أوصافه) الدالة على ذاته أي نماها، (وأخلاقه) الباطنة أي طهرها بحيث صدرت عنها الأفعال الحسنة بسهولة، (ثم اتخذه صفيه) أي مختاره من خلقه، (وحبيبه) وخليله، (ووفق للاقتداء به) أي اتباع طريقته (من أراد تهذيبه) أي هدايته وخلوصه من الردى، (وحرم التخلق بأخلاقه) أي منع عنه (من أراد) أي سبق في إرادته الأزلية (تخييبه) أي تخسيره وإضلاله واكتفى عن جملة الصلاة بما تقدم له في أوله من ذكره في الفقرة الثانية بقوله صلى الله عليه وسلم، (أما بعد فإن آداب الظواهر عنوان آداب البواطن) عنوان كل شيء بالضم ما يستدل به عليه ويضمر، والمعنى أن البواطن يستدل عليها بالظواهر فإن كانت جارية على وفق الاستقامة فالظواهر تتبعها (وحركات الجوارح) الظاهرة (ثمرات الخواطر) الباطنة إن حسنا فحسنا وإن سيئا فسيئا، (والأعمال نتيجة الأخلاق) فإن الخلق بالضم عبارة عن هيئة راسخة تصدر عنها الأفعال بسهولة من غير حاجة إلى فكر وروية، فإن كانت الهيئة بحيث تصدر عنها الأفعال الجميلة عقلا وشرعا بسهولة سميت الهيئة خلقا حسنا أو الأفعال القبيحة سميت الأفعال خلقا سيئا، فالأعمال كلها إنما هي نتائج للأخلاق تختلف باختلافها، (والآداب رشح المعارف) أي أن الآداب في الظاهر إنما ترشح عن بحر المعارف، فإن وجدت المعارف رشحت منها رشحا تبعث صاحبها على الكمال في الآداب، (وسرائر القلوب) أي ما تسره القلوب وتضمره وتكنه (هي مغارس الأفعال وينابعها) أي هي محل ظهورها ومنشؤها (وأنوار) تلك (السرائر هي التي تشرق على الظواهر) أي تلوح عنها أنوارها، (فتزينها وتحليها وتبدل بالمحاسن مكارهها ومساويها ومن لم يخشع قلبه) بجلال الله وعظمته (لم تخشع جوارحه) روى nindex.php?page=showalam&ids=14155الحكيم الترمذي في نوادر الأصول من حديث nindex.php?page=showalam&ids=3أبي هريرة أنه صلى الله عليه وسلم رأى رجلا يعبث في صلاته فقال: لو خشع قلب هذا لخشعت جوارحه، (ومن لم يكن صدره مشكاة للأنوار الإلهية) والمشكاة بالكسر كوة في الحائط يوضع فيها المصباح (لم يفض على ظاهره جمال الآداب النبوية، ولقد كنت عزمت على أن أختم ربع العادات من هذا الكتاب بكتاب جامع لآداب المعيشة لئلا يشق على طالبها استخراجها من جميع هذه الكتب المذكورة) والآتية (ثم رأيت كل كتاب من ربع العبادات وربع العادات قد أتى على جملة من الآداب) مفرقة في مواضع منها، (فاستثقلت تكريرها وإعادتها) .
ثانيا: (فإن ظل الإعادة ثقيل، والنفوس مجبولة على معاداة) أي مجافاة (المعادات) المكررات فالأول مصدر عاداه يعاديه معاداة وهاؤه مربوطة، والثانية جمع سالم للمعاد، وهو الذي أعيد ثانيا في الذكر وتاؤه مطولة وبينهما جناس (فرأيت أن أقتصر في هذا الكتاب على آداب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخلاقه) الشريفة (المأثورة عنه) أي المنقولة (بالإسناد) عن فلان عن فلان (فأسردها مجموعة فصلا فصلا محذوفة الإسناد) وفي نسخة الأسانيد (ليجتمع فيه مع الآداب تجديد الإيمان) وتطريته (وتأكيده بمشاهدة أخلاقه الكريمة التي شهد آحادها على القطع) والجزم (بأنه أكرم خلق الله تعالى [ ص: 91 ] وأعلاهم رتبة وأجلهم قدرا) وأفضلهم مقاما، (فكيف مجموعها ثم أضيف إلى ذكر أخلاقه) الباطنة (ذكر خلقته) الظاهرة (ثم ذكر معجزاته التي صحت بها الأخبار) ، ودلت عليها الآثار، ونقلتها الثقات من الأخيار (ليكون ذلك معربا) أي مبينا (عن) وفي بعض النسخ معرفا، (مكارم الأخلاق والشيم) جمع الشيمة بالكسر وهي الغريزة والطبيعة والجبلة، وهي التي خلق الإنسان عليها، (ومنتزعا عن آذان الجاحدين) أي المنكرين (لنبوته) صلى الله عليه وسلم (صمام الصمم) الصمام بالكسر ما يسد به فم القارورة ونحوها، وهو ما يجعل في فمها سدادا، والصمم محركة بطلان حاسة السمع وبينهما جناس (والله تعالى ولي التوفيق) وهو الهداية والإرشاد (للاقتداء بسيد المرسلين) صلى الله عليه وسلم (فى الأخلاق والأحوال وسائر معالم الدين فإنه) جل وعز (دليل المتحيرين) أي مرشدهم في حيرتهم إلى ما يخلصهم منها، (ومجيب دعوة المضطرين) أي الملجئين إلى المشقة والهلاك، وفيه أن العبد وإن علت منزلته فهو دائم الاضطرار لأن الاضطرار تعطيه حقيقة العبد إذ هو ممكن، وكل ممكن مضطر إلى ممد يمده، وكما أن الحق هو الغني المطلق، فالعبد مضطر إليه أبدا، ومن اتسعت أنواره لم يتوقف اضطراره، وقد عتب الله قوما اضطروا إليه عند وجود أسباب ألجأتهم إلى الاضطرار فلما زالت زال اضطرارهم .
(ولنذكر أولا بيان تأديب الله تعالى إياه بالقرآن ثم بيان جوامع من محاسن أخلاقه) التي جبل عليها (ثم بيان جملة من آدابه) الظاهرة (وأخلاقه) الباطنة (ثم بيان كلامه وضحكه ثم بيان أخلاقه وآدابه في الطعام ثم بيان أخلاقه وآدابه في اللباس ثم بيان عفوه) عن الجاني (مع القدرة) على الانتقام منه (ثم بيان إغضائه) أي مسامحته (عما كان يكره، ثم بيان سخاوته وجوده ثم بيان شجاعته وبأسه) في الحروب، (ثم بيان تواضعه ثم بيان صورته وخلقته) الظاهرة (ثم بيان جوامع معجزاته وآياته) الباهرة (صلى الله عليه وسلم) إجمالا وتفصيلا .