ويعود المرضى ويشهد الجنائز ويمشي وحده بين أعدائه بلا حارس أشد الناس تواضعا وأسكنهم في غير كبر وأبلغهم في غير تطويل وأحسنهم بشرا لا يهوله شيء من أمور الدنيا .
(ويعود المرضى) ، حتى لقد عاد غلاما يهوديا كان يخدمه ، وعاد عمه وهو مشرك ، وعرض عليهما الإسلام فأسلم الأول ، وقصته في nindex.php?page=showalam&ids=12070البخاري ، وروى nindex.php?page=showalam&ids=11998أبو داود من حديث nindex.php?page=showalam&ids=25عائشة : nindex.php?page=hadith&LINKID=674037 "كان يعود المريض وهو معتكف" .
(أشد الناس تواضعا) ، اعلم أن العبد لا يبلغ حقيقة التواضع، وهو التذلل والتخشع إلا إذا أدام تجلي نور الشهود في قلبه ; لأنه حينئذ يذيب النفس ، ويصفها عن غش الكبر والعجب ، فتلين وتطمئن للحق ، والحق يمحو آثارها ، ويسكن وهجها ، ونسيان حقها ، والذهول عن النظر إلى قدرها ، ولما كان الحظ الأوفر من ذلك لنبينا -صلى الله عليه وسلم- كان أشد الناس تواضعا ، وحسبك شاهدا على ذلك أن الله سبحانه خيره بين أن يكون ملكا نبيا ، أو نبيا عبدا ، فاختار أن يكون نبيا عبدا، ومن ثم لم يأكل متكئا بعد ، وقال : " nindex.php?page=hadith&LINKID=75164آكل كما يأكل العبد"، حتى فارق الدنيا ، ولم يقل لشيء فعله nindex.php?page=showalam&ids=9أنس خادمه أف قط ، وما ضرب أحدا من عبيده وإمائه، وهذا أمر لا يتسع له الطبع البشري لولا التأييد الإلهي .
قال العراقي : روى أبو الحسن بن الضحاك في الشمائل ، من حديث nindex.php?page=showalam&ids=44أبي سعيد الخدري في صفته -صلى الله عليه وسلم- "متواضع من غير ذلة" ، وسنده ضعيف ، وفي الأحاديث الصحيحة الدالة على شدة تواضعه غنية عنه ، منها عند nindex.php?page=showalam&ids=15397النسائي ، من حديث ابن أبي أوفى ، nindex.php?page=hadith&LINKID=941964 "كان لا يأنف ولا يستكبر أن يمشي مع الأرملة والمسكين"، الحديث، وقد تقدم اهـ .
قلت: ومنها ما روي عن nindex.php?page=showalam&ids=25عائشة : "ما كان أحسن خلقا منه ، ما دعاه أحد من أصحابه إلا قال لبيك ، وكان يركب الحمار ، ويردف خلفه" ، وفي مختصر السيرة nindex.php?page=showalam&ids=14687للطبراني ، "أنه كان ركب حمارا عربيا إلى قباء ، ومعه nindex.php?page=showalam&ids=3أبو هريرة ، فقال: أحملك ، فقال: ما شئت يا رسول الله، فقال: اركب ، فوثب ليركب فلم يقدر فاستمسك به -صلى الله عليه وسلم- فوقعا جميعا ، ثم ركب وقال له مثل ذلك ففعل فوقعا جميعا ثم ركب ، فقال له مثل ذلك ، فقال: لا والذي بعثك بالحق ما رميتك ثالثا"، وأنه كان في سفر فأمر أصحابه بإصلاح شاة ، فقال رجل : "علي ذبحها ، وقال آخر: علي سلخها ، وقال آخر: علي طبخها ، فقال -صلى الله عليه وسلم- علي جمع الحطب ، فقالوا: يا رسول الله، نكفيك العمل ، فقال: قد علمت أنكم تكفوني ، ولكن أكره أن أتميز عليكم ، وإن الله تعالى يكره من عبده أن يراه متميزا بين أصحابه" . اهـ .
(وأسكنهم) ، أي أكثرهم سكونا (في غير كبر) ، قال العراقي : وروى nindex.php?page=showalam&ids=11998أبو داود ، nindex.php?page=showalam&ids=13478وابن ماجه من حديث nindex.php?page=showalam&ids=48البراء ، فجلس وجلسنا كأن على رؤوسنا الطير ، ولأصحاب السنن [ ص: 103 ] من حديث أسامة بن شريك ، أتيت النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه ، كأنما على رؤوسهم الطير ، وفي الشمائل nindex.php?page=showalam&ids=13948للترمذي : أطرق جلساؤه ، كأنما على رؤوسهم الطير ، فإذا سكت تكلموا، وفي الشمائل لأبي الحسن بن الضحاك، من حديث nindex.php?page=showalam&ids=44أبي سعيد الخدري : "دائب الإطراق"، وسنده ضعيف ، أي دائم السكون ، وقوله: "كأنما على رؤوسهم الطير" كناية عن كونهم عند كلامه -صلى الله عليه وسلم- على غاية تامة من السكوت والإطراق ، وعدم الحركة والالتفات ، أو عن كونهم مهابين مدهوشين في هيئته ، لما أن كلامه عليه أبهة الوحي وجلالة الرسالة، وأصل ذلك أن سليمان -عليه السلام- كان إذا أمر الطير بأن تظلل أصحابه غضوا أبصارهم ، ولم يتكلموا حتى يسألهم مهابة ، أو عن كونهم متلذذين بكلامه ، وأوصل ذلك أن الغراب يقع على رأس البعير يلقط عنه صغار القردان ، فيسكن سكون راحة ولذة ، ولا يحرك رأسه خوفا من طيرانه عنه ، وهذه الحالة لهم إنما هي من تخلقهم بأخلاقه - صلى الله عليه وسلم- إذ كان -صلى الله عليه وسلم- لكمال استغراقه بالمشاهدة في سكون دائم ، وإطراق ملازم .