اللفظ الثالث النفس وهو أيضا مشترك بين معان ويتعلق بغرضنا منه معنيان .
أحدهما أنه يراد به المعنى الجامع لقوة الغضب والشهوة في الإنسان على ما سيأتي شرحه ، وهذا الاستعمال هو الغالب على أهل التصوف لأنهم يريدون بالنفس الأصل الجامع للصفات المذمومة من الإنسان فيقولون لا بد من مجاهدة النفس وكسرها وإليه الإشارة بقوله صلى الله عليه وسلم : أعدى عدوك نفسك التي بين جنبيك .
المعنى الثاني : هي اللطيفة التي ذكرناها التي هي الإنسان بالحقيقة وهي نفس الإنسان وذاته ولكنها توصف بأوصاف مختلفة بحسب اختلاف أحوالها ، فإذا سكنت تحت الأمر وزايلها الاضطراب بسبب معارضة الشهوات سميت النفس المطمئنة .
وإذا لم يتم سكونها ولكنها صارت مدافعة للنفس الشهوانية ومعترضة عليها سميت النفس اللوامة ؛ لأنها تلوم صاحبها عند تقصيره في عبادة مولاه قال الله تعالى ولا أقسم بالنفس اللوامة وإن تركت الاعتراض وأذعنت وأطاعت لمقتضى الشهوات ودواعي الشيطان سميت النفس الأمارة بالسوء .
قال الله تعالى إخبارا عن يوسف عليه السلام أو امرأة العزيز : وما أبرئ نفسي إن النفس لأمارة بالسوء وقد يجوز أن يقال : المراد بالأمارة بالسوء هي النفس بالمعنى الأول فإذا النفس بالمعنى الأول مذمومة غاية الذم ، وبالمعنى الثاني محمودة ؛ لأنها نفس الإنسان أي ذاته وحقيقته العالمة بالله تعالى وسائر المعلومات .
(اللفظ الثالث النفس وهو أيضا مشترك بين معان ويتعلق بغرضنا منه
[ ص: 206 ] معنيان)
( أحدهما أنه يراد به المعنى الجامع لقوة الغضب والشهوة في الإنسان على ما سيأتي بيانه ، وهذا الاستعمال هو الغالب على الصوفية فهم يريدون بالنفس) حيث أطلقوا (الأصل الجامع للصفات المذمومة من الإنسان فيقولون لا بد) للسالك (من مجاهدة النفس وكسرها) أي: كسر حدتها حتى تزول عنها تلك الصفات، (وإليه الإشارة بقوله -صلى الله عليه وسلم- أعدى عدوك) أي: أكثرهم عداوة لك (نفسك التي بين جنبيك) قال العراقي: رواه nindex.php?page=showalam&ids=13933البيهقي في كتاب الزهد من حديث nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس وفيه محمد بن عبد الرحمن بن غزوان أحد الوضاعين اهـ .
قلت: عرف أبوه بغرار أبو نوح .
قال nindex.php?page=showalam&ids=14269الدارقطني: محمد هذا يضع الحديث. وقال nindex.php?page=showalam&ids=13357ابن عدي: هو ممن يتهم بالوضع اهـ .
وأما أبوه فممن خرج له nindex.php?page=showalam&ids=12070البخاري ووثقه جماعة من الأئمة والحفاظ، ولم أر فيه جرحا . ووجدت بخط الحافظ ابن حجر ما نصه: وللحديث طرق أخرى غير هذه من حديث nindex.php?page=showalam&ids=9أنس وغيره ، وقد روى الديلمي من حديث ابن مالك الأشعري مرفوعا: " أعدى عدوك زوجتك التي تضاجعك وما ملكت يمينك " .
(المعنى الثاني: هي اللطيفة التي ذكرناها التي هي الإنسان بالحقيقة وهي نفس الإنسان وذاته) قال ابن الكمال في رسالة في النفس: إن المراد بالنفس ما يشير إليه كل أحد بقوله: " أنا " وقد اختلف أهل العلم في أن المشار إليه بهذا اللفظ هو هذا البدن الشاهد المحسوس أو غيره ، أما الأول فقد ظن أكثر الناس وكثير من المتكلمين أن الإنسان هو هذا البدن وكل أحد ، فإنما يشير إليه بقوله: " أنا " وهذا باطل ، والقائلون بأنه غير هذا البدن المحسوس اختلفوا: فمنهم من قال: إنه جسم ، ومنهم من قال: إنه جسماني ، ومنهم من قال: جوهر روحاني وهو مذهب الحكماء الإلهيين ، ووافقتهم في ذلك جماعة من أرباب المكاشفة ، ثم ذكر لصحة مذهبهم دلائل وبراهين لم أطول بذكرها ، وقال الفخر الرازي في التفسير الكبير: إنهم قالوا: لا يجوز أن يكون الإنسان عبارة عن هذا الهيكل المحسوس؛ لأن أجزاءه أبدا في المحو والذبول والزيادة والنقصان والاستكمال والذوبان ، ولا شك أن الإنسان من حيث هو هو أمر باق من أول عمره إلى آخره، وغير الباقي غير الباقي، فالمشار إليه عند كل أحد بقوله: " أنا " وجب أن يكون مغايرا لهذا الهيكل ، ثم أطال الكلام في ذكر ما يشير إليه كل أحد بقوله: " أنا " واختلاف الأقوال فيه بما لم نطول بذكره .
ثم قال المصنف رحمه الله تعالى: (ولكنها توصف بأوصاف مختلفة بحسب اختلاف أحوالها ، فإذا سكنت تحت الأمر وزايلها الاضطراب بسبب معارضة الشهوات سميت) هذه (النفس المطمئنة) ومنهم من قال في وصفها: إنها هي تنورت بنور القلوب حتى إذا انخلعت عن صفاتها الذميمة وتخلقت بالأخلاق الحميدة ورفعت حجب الكثائف الخلقية حتى شهدت اللطائف الخفية، وعرفت سريان أسرار الربوبية في مظاهر أطوار العبودية ، فرجعت في كل حال إلى الله ، وتلقت كل واقعة من الله ، ورأت آيات الأنفس والآفاق من الله فهي راضية في كل مشهد بالله مرضية في كل حضرة لله (قال الله تعالى: يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية ) وصاحب هذه هو عارف الوقت المحفوظ بالمحو من السلب وبالقبول من المقت ، قد أخمد ببرد الرضا حرارة الانتقام وبلوعة الشوق نقاقر المهانة والإحجام ، وبمحض التسليم أمن من قواطع القرب ، وبسلامة الذوق فارق الملل من الشرب .
(والنفس بالمعنى الأول) الذي هو الجامع لقوة الغضب والشهوة من الإنسان تسمى المستكبرة وهي أصعب النفوس المتلونة قيادا ، وأبعدها حضورا ، وأعظمها عنادا ، وأشدها نفورا ، تصول صولة أهل الدولة والرياش ، وتتهافت على الرذائل تهافت الفراش ، وتقول بلسان الدعاوى: أنا الشمس والقمر ، فإذ بدا ما فيها من المساوئ عسعس الغيهب واعتكر .
(لا يتصور رجوعها إلى الله فإنها مبعدة من) حضرة (الله وهي من حزب الشيطان) إلا أن صاحبها إذا لوحظ بعين الإمداد وجذبته العناية بأزمة السداد ، أهزل من أنفتها ما كان سمينا ، وحقر من افتخارها ما كان ثمينا ، وأفردها من الرياضة في جبل صعب المسالك بعيد الذرى والمدارك، ليس لعشاق الرياسة له من سبيل ، ولا للهمم الدنية عليه تعويل، (وإذا لم يتم سكونها) تحت الأمر، (ولكنها صارت مدافعة للنفس الشهوانية ومعترضة عليها سميت النفس اللوامة؛ لأنها تلوم صاحبها عند تقصيره
[ ص: 207 ] في عبادة مولاها) فهي تنورت بنور القلب قدر ما تنبهت من سنة الغفلة ، كلما صدرت منها سيئة بحكم جبلتها الظلمانية نفتها بلوم، وتتوب عنها، لا يزال شأنها الملل في كل علم وعمل ، كلما حصلت على مطلوب نشأ لها حظ وأمل ، فهي أبدا في شكاية ووجل ، وكآبة أنشأتها الرغبة في الفائت، والضجر مما حصل (قال تعالى) : لا أقسم بيوم القيامة ( ولا أقسم بالنفس اللوامة ) وصاحب هذه إن وقف بالذل والخضوع على باب مولاه فتح له وآواه ، وأحضره حضرة مناجاته أو منحه رؤياه ، وأجلسه على موائد مدده وهداه ، وأورده مشاهد رضاه في تقواه .
(وإن تركت الاعتراض وأذعنت) ومالت إلى الطبيعة البدنية (وأطاعت لمقتضى الشهوات) الحسية (ودواعي الشيطان) وجذبت القلب إلى الجهة السفلية (سميت النفس الأمارة بالسوء) لانفعالها بالخواطر المارة هي سقط رأس القرينين ، ومجمع لجيوش الوصل والبين ، إن تغلب عليها القرين الجاني، وهو القوي الشهواني غرس فيها من رذائل الأخلاق أشجار الزقوم ، وأجرى منها من نقائص الأعمال بحار اليحموم ، وألبسها من المجانسة الخلقية تارة جلد كلب، وتارة جلد حمار ، وبنى قصر تقصيرها على شفا جرف هار ، وإن تبوأها القرين الروحاني وهو نور البيان الإنساني أرغد غذاء قلبها من طيب ثمر المعاني ، وروق شراب أعضائها من العمل الرضواني ، وألبسها من تسبيح الفضائل الخلقية حللا سندسية وإستبرقية ، وجعلها حرما آمنا لمن فزع من جهله وذنوبه تجبى إليه ثمرات كل شيء رزقا من لدن علام غيوبه أشجار كلمة طيبة لا تخبط ولا تقطع ، وطائر وارداته لا ينفر ولا يروع (قال تعالى: وما أبرئ نفسي إن النفس لأمارة بالسوء ) إلا ما رحم ربي ، وصاحب هذه إن رحم سلك في منهاج الحذر من غوائلها، وتدرع باليقظة من سهام دسائسها عن أن تقع في مقاتلها كلما أحس رأى أنه مقصر، فكيف به إذا وجب عليه أن يستغفر ، هكذا ذكر الله تعالى النفس في كلامه القديم بثلاثة أوصاف، وهي نفس واحدة ، ولها صفات متغايرة ، فالسكينة مزيد الإيمان، وبها تحصل الطمأنينة ويرتقي القلب إلى مقار جبلاتها متطلعة إلى مقار الطمأنينة ، فهي اللوامة ، فإذا قامت في محلها لا يغشاها نور المعرفة والعلم فهي الأمارة بالسوء ، فالنفس والروح يتطاردان ، فتارة تملك القلب دواعي الروح ، وتارة تملكه دواعي النفس، (وقد يجوز أن يقال: المراد بالأمارة بالسوء هي النفس بالمعنى الأول) الذي هو الجامع لقوة الغضب والشهوة من الإنسان ، (فإذا النفس بالمعنى الأول مذمومة غاية الذم ، وبالمعنى الثاني محمودة؛ لأنها نفس الإنسان أي ذاته وحقيقته العالمة بالله تعالى وبسائر المعلومات) .
ثم اعلم أن النفوس الممنوحة بالتمكين فروش العقول المجردة من غلبات التلوين وهي ست كالجهات لتصور التجليات في الحضرات العلميات ، والنفوس المحجوبة بحجاب التعين ، الموقوفة عند النفوذ من أقطار الكيان في رحلة التلون ، فروش العقول النظرية المعقولة بالقيود الخبرية ، والحدود الفكرية قد حجبت عن شهود حقائق القدس بقياس الغيوب على شواهد الحس ، وهي على عدد الحواس الخمس ، فهن إحدى عشرة نفسا ، فذكر المصنف منها أربعة: المطمئنة والمستكبرة واللوامة والأمارة. ونحن نشير إلى باقيها فنقول:
الخامسة: هي النفس الدساسة المتلونة في الأخلاق المعكوسة، ولذتها الإرضاع من شيمة الطباع، ووادقها الأكياف والأشكال، ودستها في مرتبة الوهم والخيال ، وإليها الإشارة بقوله تعالى: وقد خاب من دساها وصاحبها لا حياة له إلا برضاع ثدي الذكر والاعتزال والفطام عن خلط أهل المراء، وخبط أهل الجدال حتى يعود إليها روح الفطرة وتذهب عنها فترة الغمرة .
السابعة: النفس السوالة [ ص: 208 ] الدساسة القتالة تزخرف المهالك الفواتك بحلاء الفضائل والمناسك ، وإليها الإشارة في قصة السامري ، فإنها فعلت الذي فعلت وسقته السم في العسل وهي مستدرجة بعلوم النظر محجوبة عن المؤثر بالأثر ، محبوسة السمع والبصر ، في سجن القياس والفكر ، لا دواء لأمراضها إلا إذلالها بين معظمها في البرايا وتنقيصها ، وإن أتت بكل المزايا، وشج رأس رياستها بالذل والخمول، ومل مواسك إفكها بالرد وعدم القبول .
الثامنة: النفس الزاكية، قد أشرقت شمس حقيقتها الفعلية ، فقد أنور فاعلها ضحاها وتلألأ قمر قبولها الفطري ، فتمت كلمتها بظهور معناها، وهجم نهار توحيدها على ظلم صور الأسباب فجلاها ، وسكنت إلى الله بخمود حركات الحظوظ ، فلم تزل آمنات الإيجاد بمحو المنازعة تغشاها ، وإليها الإشارة بقوله قد أفلح من زكاها وصاحب هذه ملهم البصيرة طاهر الظاهر والسريرة ، رفع عنه المصور حجاب الصور ، فشهد الله في كل مشهد مولاه ونصيره ، قد أنعم بالتوفيق والسكينة خشونة الطباع والأخلاق ، وامتزج مزاجه بنفحات الرحمة ، فطابت بأنفاس معارفه وعوارفه جميع الآفاق .
التاسعة: النفس الذاكرة بلسان شهود المسمى في معرفة أسمائه الشريفة ، وإليها الإشارة بقوله: واذكر ربك في نفسك تضرعا وخيفة قد حررت نيران خوفها ورجاها وجاوزت الأطراف ففازت من الوسطية بمنتهى شهدت معناها ، فرأت بلوغ مناها ، وعلمت أن لا حول ولا قوة إلا بمولاها ، فخرجت عن تخيل حيلها وقواها ، وخشعت الأصوات لواهيها ، فسمعت كلام مناجيها ، وحميت من هواها كما حميت من مهاويها ، فنشفت أنفاس الرحمة من جميع نواحيها ، وصاحب هذه هو الذاكر على الحقيقة والعيان، المحفوظ من الغفلة والنسيان الموهوب أفضل ما يعطى السائلون من الأماني والأمان، ظاهره بالجلال في الشرع مضبوط ، وباطنه بالجمال في الجمع مبسوط ، ثبت أصل شجرته، وطال فرع سدرته ، كلما هزت فكرته بيد الرياضة جذع عبرته تساقط عليه من روض الرضا جني ثمرته واستغرقته لذة ذوقه عن زهارة زهر خضرته ، ولم يدع له استقبال قبلة القبول أربا دون محبوبه يرتضيه ولا طلبا ، غيره يفرح بتقاضيه، تلاصق توجهه التوحيدي في كل مقام بلسان الدهش والاصطلام ، تبارك اسم ربك ذي الجلال والإكرام .
العاشرة: هي النفس المملوكة بأصل الوضع ذات المكنة في عوالم السمع ، هي التي اصطنعت في النفس العلمية ، وصنعت على عينها الحكمية، تولدت على قوى التلقي والإلهام على صورة ما تجلى به عليها ذو الجلال والإكرام ، فلما شبت على صورة الأصل قيل لقوامها من خلف حجاب الوصل : لا تخف، نجوت من الفصل ، ولما دعيت لكشف القناع في حضرة السماع قدس من خشاش الشواغل واديها ، وخلع مرام صدقها بفعل الكيف والدين عند طرق ناديها ، تنزيها وإجلالا لمقعد صدق مناديها ، وسترت ببرقع الصعد والدك خفي وجوه الغيرية وباديها، فقال لها: قد بلغت المنى، إني أنا، وقيل لصاحبها: إني اصطفيتك فخذ ما آتيتك حين جاهد في الله حق جهاده بخروجه لمراد الله عن مراده ، وأناله الله منالا فوق الأمل وأقامه مقاما لا يبلغ بالعمل ، وإليها الإشارة بقوله: رب إني لا أملك إلا نفسي صاحبها كل أيامه طيب وطرب، وسائر لياليه قرب وقرب ، وجميع أحواله دنو وأدب ، في عجزه معروف بالقوة الباهرة ، وفي فقره موصوف بإسباغ النعم الباطنة والظاهرة .
الحادية عشر: النفس العلمية أم حضرة الكمالات وكتاب التفصيل والإجمالات ، صحيفة المعاني اللاهوتية ، المحمولة على عرش الكلمات الناسوتية ، هي التي تعرف جلابيب النسب والإضافات ، وألبست خلع أستار الصفات العليات ، وكشف دونها حجاب حضرة الذات ، فتحجبت بنور عز الوحدة عن غواشي أعين الشتات ، وصاحب هذه في كل زمان واحد الأعيان وروح الأكوان ومسير البيان عن علم الرحمن .