اعلم أن مثال القلب مثال حصن والشيطان عدو يريد أن يدخل الحصن فيملكه ويستولي عليه ، ولا يقدر على حفظ الحصن من العدو إلا بحراسة أبواب الحصن ومداخله ، ومواضع ثلمه ولا يقدر على حراسة أبوابه من لا يدري أبوابه ، فحماية القلب عن وسواس الشيطان واجبة وهو فرض عين على كل عبد مكلف وما لا يتوصل إلى الواجب إلا به فهو أيضا واجب ، ولا يتوصل إلى دفع الشيطان إلا بمعرفة مداخله ، فصارت معرفة مداخله واجبة ، ومداخل الشيطان وأبوابه صفات العبد وهي كثيرة ، ولكنا نشير إلى الأبواب العظيمة الجارية مجرى الدروب التي لا تضيق عن كثرة جنود الشيطان .
(بيان تفضيل مداخل الشيطان إلى القلب)
(اعلم أن مثال القلب مثال حصن) منيع، وله أبواب (والشيطان) كأنه (عدو يريد أن يدخل الحصن فيملكه ويستولي عليه ، ولا يقدر على حفظ الحصن من العدو إلا بحراسة أبواب الحصن ومداخله ، ومواضع ثلمه) أي: الثقب والكسر، (ولا يقدر على حراسة أبوابه من لا يعرف أبوابه، فحماية القلب من وساوس الشيطان واجب) وأمره أكيد (وهو فرض عين على كل مكلف) كما ذهب إليه عبد الرحيم بن يحيى الأرموي ومن تبعه، وقد تقدم قريبا (وما لا يتوصل إلى واجب إلا به فهو أيضا واجب ، ولا يتوصل إلى دفع الشيطان إلا بمعرفة مداخله ، فصارت معرفة مداخله واجبة ، ومداخل الشيطان وأبوابه) التي يدخل بها على القلب (صفات العبد) فإنها بمنزلة الأبواب والمداخل بالنسبة إليه (وهي كثيرة ، ولكنا نشير إلى الأبواب العظيمة الجارية مجرى الدروب التي لا تضيق عن كثرة جنود الشيطان) ، وأصل الدرب المضيق بين الجبلين (فمن أبوابه العظيمة الغضب والشهوة ، فإن الغضب هو غول العقل) أي: يتغول به العقل (وإذا ضعف جند القلب هجم جند الشيطان) وجند العقل هو العلم بالله واليقين ، وجند الشيطان الجهل والطمع وحب الدنيا، (ومهما غضب الإنسان لعب الشيطان به كما يلعب الصبي بالكرة) يدحرجه كيف يشاء كما يفعل الصبي بالكرة (كما روي) في الإسرائيليات (أن موسى عليه السلام لقيه إبليس فقال له: يا موسى أنت الذي اصطفاك الله برسالته وكلمك تكليما، وأنا خلق من خلق الله أذنبت) وعصيت (وأريد أن أتوب ، فاشفع لي إلى ربي أن يتوب علي) أي: يقبل توبتي (فقال) له (موسى: نعم ، فدعا موسى ربه عز وجل ، فأوحى الله تعالى إلى موسى: قد قضيت حاجتك ، مره أن يسجد لقبر آدم حتى يتاب عليه فلقي موسى إبليس، فقال: قد أمرت أن تسجد لقبر آدم حتى يتاب عليك فغضب) إبليس (واستكبر وقال: لم أسجد له حيا أأسجد له ميتا ، ثم قال: يا موسى، إن لك علي حقا لما شفعت لي إلى ربك ، فاذكرني عند ثلاث لا أهلكك فيهن ، اذكرني حين
[ ص: 276 ] تغضب ، فإن روحي في قلبك ، وعيني في عينك ، وأجري منك مجرى الدم ، واذكرني حين تلقى الزحف) أي: صف الكفار، (فإني آتي ابن آدم حين يلقى الزحف، فأذكره زوجته وولده وأهله حتى يولي) ظهره، (وإياك أن تجلس إلى امرأة ليست بذات محرم ، فأنا رسولها إليك ، ورسولك إليها فقد أشار) إبليس (بهذا إلى الشهوة والغضب والحرص ، فإن الفرار من الزحف حرص على الدنيا ومتاعها ، وامتناعه عن السجود لآدم ميتا هو الحسد وهو أعظم مداخله) كما سيأتي في عدم سجوده لآدم ميتا أيضا أنفة وعجبا وكبرا ، وكل هؤلاء من مداخله في بني آدم كما سيأتي ذلك كله .
(وقد ذكر) في بعض الكتب (أن بعض الأولياء قال لإبليس: أرني كيف تغلب ابن آدم ، فقال: آخذه عند الغضب وعند الهوى) أي: ميل النفس إلى أمر دنيوي (فقد حكي أن إبليس ظهر لراهب) من رهبان بني إسرائيل (فقال له الراهب: أي أخلاق بني آدم أعون لك) أي: أكثر عونا لك في ملكه والدخول عليه (قال: الحدة) وهي التسرع في الغضب، (فإن العبد إذا كان حديدا) في غضبه (قلبناه كما تقلب الصبيان الكرة ، وقيل: إن الشيطان يقول: كيف يغلبني ابن آدم ، وإذا رضي جئت حتى أكون في قلبه ، وإذا غضب طرت حتى أكون في رأسه) وابن آدم لا يخلو من تينك الحالتين، وهو فيهما ملازم له يعده ويمنيه ويراه من حيث لا يراه ، فكيف يغلبه .