(وعلى الجملة فالقرآن من أوله إلى آخره) توحيد صرف، وأحكام، وقصص، وأمثال و (محاجة مع الكفار) ، مملوء من الحجج والأدلة والبراهين في مسائل التوحيد وإثبات الصانع والمعاد وإرسال الرسل وحدوث العالم، فلا يذكر المتكلمون وغيرهم دليلا صحيحا على ذلك إلا وهو في القرآن بأفصح عبارة، وأوضح بيان، وأتم معنى وأبعده عن الإيراد والأسئلة، وقد اعترف بهذا حذاق [ ص: 54 ] المتكلمين من المتقدمين والمتأخرين (فعمدة أدلة المتكلمين في التوحيد) أي: في إثبات وحدانية الله تعالى (قوله تعالى: لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا ) وسيأتي الكلام على هذه الآية في شرح الرسالة القدسية (وفي البعث) والحشر (قوله) تعالى ( قل يحييها الذي أنشأها أول مرة ) وسيأتي الكلام عليها أيضا (إلى غير ذلك من الأدلة) بجميع أنواعها والأقيسة الصحيحة .
قال ابن القيم: وهذا الذي أشار إليه بحسب ما فتح له من دلالة القرآن بطريق الخبر -وإلا فدلالته البرهانية العقلية التي يشير إليها ويرشد إليها فتكون دليلا سمعيا عقليا- أمر تميز به القرآن، وصار العالم به من الراسخين في العلم، وهو العلم الذي يطمئن إليه القلب وتسكن عنده النفس ويزكو به العقل وتستنير به البصيرة وتقوى به الحجة، ولا سبيل لأحد من العالمين إلى قطع من حاج به، بل من خاصم به فلحت حجته وكسر شبهة خصمه، وبه فتحت القلوب، واستجابت لله ولرسوله .
ولكن أهل هذا العلم لا تكاد الأعصار تسمح منهم إلا بالواحد بعد الواحد، فدلالة القرآن سمعية عقلية قطعية يقينية، لا تعترضها الشبهات، ولا تتداولها الاحتمالات، ولا ينصرف القلب عنها بعد فهمها أبدا، وقال بعض المتكلمين: أفنيت عمري في الكلام أطلب الدليل، وإذا أنا لا أزداد إلا بعدا منه، فرجعت إلى القرآن أتدبره وأتفكر فيه، وإذا أنا بالدليل حقا معي وأنا لا أشعر به. وقد أشرنا إلى بقية هذا الكلام في كتاب العلم .