اعلم أن كل عضو من أعضاء البدن خلق لفعل خاص به ، وإنما مرضه أن يتعذر عليه فعله الذي خلق له ، حتى لا يصدر منه أصلا أو يصدر منه مع نوع من الاضطراب فمرض اليد أن يتعذر عليها البطش ومرض العين أن يتعذر عليها الإبصار وكذلك مرض القلب أن يتعذر عليه فعله الخاص به الذي خلق لأجله وهو العلم والحكمة والمعرفة وحب الله تعالى وعبادته والتلذذ بذكره وإيثاره ذلك على كل شهوة سواه والاستعانة بجميع الشهوات والأعضاء عليه قال الله تعالى : وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ففي كل عضو فائدة وفائدة القلب الحكمة والمعرفة وخاصة النفس التي للآدمي ما يتميز بها عن البهائم فإنه لم يتميز عنها بالقوة على الأكل والوقاع والإبصار أو غيرها بل بمعرفة الأشياء على ما هي عليه ، وأصل الأشياء وموجدها ومخترعها هو الله عز وجل الذي جعلها أشياء ، فلو عرف كل شيء ولم يعرف الله عز وجل فكأنه لم يعرف شيئا وعلامة المعرفة المحبة ، فمن عرف الله تعالى أحبه وعلامة المحبة أن لا يؤثر عليه الدنيا ولا غيرها من المحبوبات كما قال الله تعالى : قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم إلى قوله : أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره فمن عنده شيء أحب إليه من الله فقلبه مريض ، كما أن كل معدة صار الطين أحب إليها من الخبز والماء أو سقطت ، شهوتها عن الخبز والماء فهي مريضة ، فهذه علامات المرض ، وبهذا يعرف أن القلوب كلها مريضة إلا ما شاء الله إلا أن من الأمراض ما لا يعرفها صاحبها ومرض القلب مما لا يعرفه صاحبه فلذلك يغفل عنه ، وإن عرفه صعب عليه الصبر على مرارة دوائه ، فإن دواءه مخالفة الشهوات وهو نزع الروح فإن وجد من نفسه قوة الصبر عليه لم يجد طبيبا حاذقا يعالجه ، فإن الأطباء هم العلماء ، وقد استولى عليهم المرض فالطبيب ، المريض قلما يلتفت إلى علاجه فلهذا صار الداء عضالا والمرض مزمنا واندرس هذا العلم ، وأنكر بالكلية طب القلوب وأنكر مرضها وأقبل الخلق على حب الدنيا وعلى أعمال ظاهرها عبادات وباطنها عادات ومراءات ، فهذه علامات أصول الأمراض .
، وأما علامات عودها إلى الصحة بعد المعالجة فهو أن ينظر في العلة التي يعالجها ، فإن كان يعالج داء البخل فهو المهلك المبعد عن الله عز وجل وإنما علاجه ببذل المال وإنفاقه ولكنه قد يبذل المال إلى حد يصير به مبذرا فيكون التبذير أيضا داء فكان ، كمن يعالج البرودة بالحرارة حتى تغلب الحرارة فهو ، أيضا داء بل المطلوب الاعتدال بين الحرارة والبرودة وكذلك المطلوب الاعتدال بين التبذير والتقتير حتى يكون على الوسط وفي غاية من البعد عن الطرفين إن أردت أن تعرف الوسط فانظر إلى الفعل الذي يوجبه الخلق المحذور ، فإن كان أسهل عليك وألذ من الذي يضاده ، فالغالب عليك ذلك الخلق الموجب له ، مثل أن يكون إمساك المال وجمعه ألذ عندك وأيسر عليك من بذله لمستحقه ، فاعلم أن الغالب عليك خلق البخل فزد في المواظبة على البذل فإن صار البذل على غير المستحق ألذ عندك وأخف عليك من الإمساك بالحق فقد غلب عليك التبذير فارجع إلى المواظبة على الإمساك فلا ، تزال تراقب نفسك وتستدل على خلقك بتيسير الأفعال وتعسيرها حتى تنقطع علاقة قلبك عن الالتفات إلى المال ، فلا تميل إلى بذله ، ولا إلى إمساكه بل يصير عندك كالماء فلا تطلب فيه إلا إمساكه لحاجة محتاج أو بذله لحاجة محتاج ، ولا يترجح عندك البذل على الإمساك ، فكل قلب صار كذلك فقد أتى الله سليما عن هذا المقام خاصة ويجب أن يكون سليما عن سائر الأخلاق حتى لا يكون له علاقة بشيء مما يتعلق بالدنيا ، حتى ترتحل النفس عن الدنيا منقطعة العلائق منها غير ملتفتة إليها ولا متشوقة إلى أسبابها فعند ذلك ترجع إلى ربها رجوع النفس المطمئنة راضية مرضية داخلة في زمرة عباد الله المقربين من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا .
ولما كان الوسط الحقيقي بين الطرفين في غاية الغموض بل هو أدق من الشعر ، وأحد من السيف ، فلا جرم أن من استوى على هذا الصراط المستقيم في الدنيا جاز على مثل هذا الصراط في الآخرة وقلما ينفك العبد عن ميل عن الصراط المستقيم أعني : الوسط حتى لا يميل إلى أحد الجانبين ، فيكون قلبه معلقا بالجانب الذي مال إليه .
ولذلك ، لا ينفك عن عذاب ما واجتياز على النار ، وإن كان مثل البرق قال الله تعالى : وإن منكم إلا واردها كان على ربك حتما مقضيا ثم ننجي الذين اتقوا أي الذين كان قربهم إلى الصراط المستقيم أكثر من بعدهم عنه ولأجل عسر الاستقامة وجب على كل عبد أن يدعو الله تعالى في كل يوم سبع عشرة مرة في قوله اهدنا الصراط المستقيم إذ وجب قراءة الفاتحة في كل ركعة .
فقد روي أن بعضهم رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام فقال : قد قلت يا رسول الله : شيبتني هود فلم ، قلت ذلك فقال عليه السلام ؟ : لقوله تعالى : فاستقم كما أمرت فالاستقامة على سواء السبيل في غاية الغموض ولكن ينبغي أن يجتهد الإنسان في القرب من الاستقامة إن لم يقدر على حقيقتها فكل من أراد النجاة فلا نجاة له إلا بالعمل الصالح ، ولا تصدر الأعمال الصالحة إلا عن الأخلاق الحسنة فليتفقد كل عبد صفاته وأخلاقه وليعددها وليشتغل بعلاج واحد واحد فيها على الترتيب فنسأل الله الكريم أن يجعلنا من المتقين .
(اعلم أنه كما أن كل عضو من أعضاء البدن خلق لفعل خاص به ، وإنما مرضه أن يتعذر عليه فعله الذي خلق له ، حتى لا يصدر منه أصلا أو يصدر مع نوع من الاضطراب) والاختلال (فمرض اليد أن يتعذر عليه البطش) ومرض الرجل أن يتعذر عليه المشي ، ومرض الأذن أن يتعذر عليه السماع (ومرض العين أن يتعذر عليه الإبصار) وقس على ذلك باقي الأعضاء .
(فكذلك مرض القلب هو أن يتعذر عليه فعله الخاص به الذي خلق لأجله وهو العلم والحكمة والمعرفة وحب الله تعالى وعبادته والتلذذ به وإيثار ذلك على كل شهوة سواه والاستعانة بجميع الشهوات والأعضاء عليه) لأنه بيت الإيمان بالله ، ويرشح له ما ورد في خبر القلب بيت الرب ، وإن لم يكن له أصل في المرفوع كما قاله الحافظ السخاوي ، لكن معناه صحيح (قال تعالى: وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ) قيل: معناه ليعرفوا أن معرفة الله تعالى روح كل عبادة (وفائدة القلب الحكمة والمعرفة) فإذا خلا عنهما فهو المنكوس الذي قيل فيه: أم على قلوب أقفالها (وخاصية النفس التي للآدمي ما تتميز به عن البهائم ولم يتميز عنها بالقوة على الأكل والوقاع والإبصار وغير ذلك) فقد تشاركه البهائم فيها .
(بل معرفة الأشياء على ما هي عليه ، وأصل الأشياء وموجدها ومخترعها الذي جعلها أشياء هو الله تعالى ، فلو عرف كل شيء ولم يعرف الله تعالى فكأنه لم يعرف شيئا) ويحكم على فساد عقله وانتكاس قلبه عن درجة الكمال ، ولكل شيء عند التحقيق علامة بها يعرف ذلك الشيء ، (وعلامة المعرفة المحبة ، فمن عرف الله أحبه) وأحب لقاءه (وعلامة المحبة أن لا تؤثر عليه الدنيا ولا غيرها من المحبوبات) ، فمن آثر على محبته شيئا من ذلك فهو مدع في الحب كذاب (كما قال تعالى: قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم إلى قوله: أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره فمن عنده شيء أحب إليه من الله فقلبه مريض ، كما أن كل معدة صار الطين أحب إليها من الخبز والماء ، وسقطت شهوتها عن الخبز والماء فهي مريضة ، فهذه علامة المرض ، وبهذا يعرف أن القلوب كلها مريضة إلا ما شاء الله) والحكم للغالب (إلا أن من الأمراض ما لا يعرفه صاحبه) ولا يهتدي إليه (ومرض القلب مما لا يعرفه صاحبه) لأنه غير محسوس بالأبصار فمعرفة مرضه عسر (فلذلك يغفل عنه ، وإن عمله صاحبه) بضرب من التوفيق (صعب عليه الصبر على مرارة دوائه ، فإن دواءه مخالفة الشهوات وهو) بمنزلة نزع (الروح) من الجسد (وإن وجد من نفسه قوة الصبر عليه لم يجد طبيبا حاذقا يعالجه ، فإن الأطباء هم العلماء ، وقد استولى المرض عليهم ، والطبيب المريض قلما يلتفت إلى علاجه) إذ يقال له:
يا أيها الرجل المعلم غيره * هلا لنفسك كان ذا التعليم
[ ص: 347 ] وقالوا:
ومن عجب الدنيا طبيب مصفر * وأعمش كحال وأعمى منجم
وفيهم قليل:
* عليل يداوي الناس وهو عليل *
(فلهذا صار الداء عضالا) صعبا (والمرض مزمنا) راسخا (واندرس هذا العلم مرة واحدة ، وأنكر بالكلية طب القلوب وأنكر مرضها) واشتغلوا بإصلاح الظاهر (وأقبل الخلق على حب الدنيا) واقتنائها (وعلى أعمال ظاهرها عبادات وباطنها عادات ومراآة ، فهذه علامة أصل المرض ، وأما علامة عوده إلى الصحة بعد المعالجة فهو أن ينظر في العلة التي يعالجها ، فإن كان يعالج داء البخل وهو المهلك المبعد عن الله تعالى) كما ورد في الخبر وأي داء أدوأ من البخل، (فإنما علاجه ببذل المال وإنفاقه) في وجوهه، (ولكنه قد يبذل المال إلى حد يصير) به (مبذرا فيكون التبذير أيضا داء ، ويكون كمن يعالج البرودة بالحرارة) على أنهما ضدان ، إنما يعالج المرض بما يضاده (حتى تغلب الحرارة ، وهو أيضا داء بل المطلوب الاعتدال بين الحرارة والبرودة) بحيث لا يغلب أحدهما على الثاني (فكذلك المطلوب الاعتدال بين التقتير والتبذير حتى يكون على الوسط وفي غاية البعد من الطرفين) قال ابن الوردي:
*
بين تبذير وبخل رتبة * وكلا هذين إن زاد قتل
(فإن أردت أن تعرف الوسط فانظر إلى الفعل الذي يوجبه الخلق المحذور ، فإن كان أسهل عليك وألذ من الذي يضاده ، فالغالب عليك ذلك الخلق الموجب له، مثل أن يكون إمساك المال وجمعه ألذ عندك وأيسر عليك من بذله لمستحقيه ، فاعلم أن الغالب عليك خلق البخل) وقد عرفته منك (فزد في المواظبة على البذل) والإنفاق، (فإن صار البذل للمستحق ألذ عندك وأخف عليك من الإمساك بحق فقد غلب عليك التبذير) وهو أيضا خلق مذموم ، قال الله تعالى: إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين (فارجع إلى المواظبة على الإمساك ، ولا تزال تراقب نفسك وتستذل على خلقك بتيسر الأفعال وتعسرها حتى تنقطع علاقة قلبك عن المال ، فلا تميل إلى بذله ، ولا إلى إمساكه بل يصير عندك كالماء) المعد للشرب وغيره (فلا تطالب فيه إلا إمساكه لحاجة محتاج أو بذله لحاجة محتاج ، ولا يترجح عندك البذل على الإمساك ، فكل قلب صار كذلك فقد جاء الله سليما عن هذا المقام خاصة) يشير إلى قوله تعالى: إلا من أتى الله بقلب سليم (ويجب أن يكون سليما عن سائر الأخلاق حتى لا تكون له علاقة بشيء مما يتعلق بالدنيا ، حتى ترتحل النفس عن الدنيا منقطعة العلائق عنها غير ملتفتة إليها ولا متشوقة إلى أسبابها) :
فمن سره أن لا يجد ما يسوءه * فلا يتخذ شيئا يخاف له فقدا
(ولما كان الوسط الحقيقي بين الطرفين في غاية الغموض) والدقة (بل هو أدق من الشعر ، وأحد من السيف ، فلا جرم من استوى على هذا الصراط المستقيم في الدنيا جاز على مثل هذا الصراط في الآخرة) الذي من وصفه أدق من الشعر وأحد من السيف (وقلما ينفك العبد عن ميل) ما (عن الصراط المستقيم أعني: الوسط حتى
[ ص: 348 ] لا يميل إلى أحد الجانبين ، فيكون قلبه متعلقا بالجانب الذي مال إليه ، فلذلك لا ينفك عن عذاب ما واجتياز على النار، وإن كان) ذلك (مثل البرق) الخاطف كما ورد ذلك في الخبر (وقال تعالى: وإن منكم إلا واردها ) أي: مجتاز عليها كما فسر به الورود في قول ( كان على ربك حتما مقضيا ثم ننجي الذين اتقوا أي الذين كان قربهم إلى الصراط) المستقيم (أكثر من بعدهم عنه) ونذر الظالمين فيها جثيا وهم الذين ظلموا أنفسهم ومالوا عن الصراط إلى أحد حديه ، نتركهم حول النار جثيا على ركبهم (ولأجل عسر الاستقامة وجب على كل عبد أن يدعو الله تعالى في كل يوم وليلة) في صلاته (سبعة عشر مرة في قوله) في سورة الفاتحة ( اهدنا الصراط المستقيم إذ وجبت الفاتحة في كل ركعة) وهي اثنان للصبح وأربع للظهر وأربع للعصر وثلاث للمغرب وأربع للعشاء ، مجموع ذلك سبع عشرة ركعة .
(ورأى بعضهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في المنام فقال له: قد قلت يا رسول الله: شيبتني سورة هود ، فلما قلت ذلك؟ قال: لقوله تعالى:) فيها ( فاستقم كما أمرت ) وهذا اللفظ قد رواه nindex.php?page=showalam&ids=13507ابن مردويه من حديث nindex.php?page=showalam&ids=9أنس بزيادة: " وأخواتها: الواقعة والقارعة والحاقة والشمس إذا كورت وسأل سائل " ، وقد تقدم الكلام على هذا الحديث (فالاستقامة على سواء السبيل في غاية الغموض) والدقة (ولكن ينبغي أن يجتهد الإنسان في) تحصيل مرتبة (القرب من الاستقامة إن لم يقدر على حقيقة الاستقامة التي) هي الوفاء بكل العهود ولزوم الصراط المستقيم برعاية خط الوسط في كل أمر ديني أو دنيوي .
(فكل من أراد النجاة فلا نجاة إلا بالعمل الصالح ، ولا تصدر الأعمال الصالحة إلا عن الأخلاق الحسنة) إذ ترشح منها آثار حسنة على الجوارح ، فتصدر منها الأعمال على وفقها (فليتفقد كل عبد صفاته وأخلاقه) الباطنة (وليعددها وليشتغل بعلاج واحد واحد منها على الترتيب) مقدما منها الأحق فالأحق ، والله الموفق .