في بيعها بالجوهرة ومن ، ليس مريدا حرث الآخرة ولا طالبا للقاء الله تعالى فهو لعدم إيمانه بالله واليوم الآخر ، ولست أعني بالإيمان حديث النفس وحركة اللسان بكلمتي الشهادة من غير صدق وإخلاص ، فإن ذلك يضاهي قول من صدق بأن الجوهرة خير من الخرزة إلا أنه لا يدري من الجوهرة إلا لفظها وأما حقيقتها فلا ، ومثل هذا المصدق إذا ألف الخرزة قد لا يتركها ولا يعظم اشتياقه إلى الجوهرة فإذن ، المانع من الوصول عدم السلوك والمانع من السلوك عدم الإرادة والمانع من الإرادة عدم الإيمان وسبب عدم الإيمان عدم الهداة والمذكرين والعلماء بالله تعالى الهادين إلى طريقه والمنبهين على حقارة الدنيا وانقراضها ، وعظم أمر الآخرة ودوامها فالخلق غافلون قد انهمكوا في شهواتهم وغاصوا في رقدتهم وليس في علماء الدين من ينبههم فإن تنبه منهم متنبه عجز عن سلوك الطريق لجهله فإن طلب الطريق من العلماء وجدهم مائلين إلى الهوى عادلين عن نهج الطريق ، فصار ضعف الإرادة والجهل بالطريق ونطق العلماء بالهوى سببا لخلق طريق الله تعالى عن السالكين فيه ومهما كان المطلوب محجوبا ، والدليل مفقودا ، والهوى غالبا ، والطالب غافلا امتنع الوصول وتعطلت الطرق لا محالة ، فإن تنبه متنبه من نفسه أو من تنبيه غيره وانبعث له إرادة في حرث الآخرة وتجارتها ، فينبغي أن يعلم له شروطا لا بد من تقديمها في بداية الإرادة وله معتصم لا بد من التمسك به وله حصن لا بد من التحصن به ليأمن من الأعداء القطاع لطريقه وعليه وظائف لا بد من ملازمتها في وقت سلوك الطريق .
والسد بين المريد وبين الحق أربعة : : المال والجاه والتقليد والمعصية ، وإنما يرفع حجاب المال بخروجه عن ملكه حتى لا يبقى له إلا قدر الضرورة فما دام يبقى له درهم يلتفت إليه فهو مقيد به محجوب عن الله عز وجل ، وإنما يرتفع حجاب الجاه بالبعد عن موضع الجاه بالتواضع ، وإيثار الخمول والهرب من أسباب الذكر وتعاطي أعمال تنفر قلوب الخلق عنه .
وإنما يرتفع حجاب التقليد بأن يترك التعصب للمذاهب وأن يصدق بمعنى قوله : لا إله إلا الله محمد رسول الله تصديق إيمان ويحرض في تحقيق صدقه بأن يرفع كل معبود له سوى الله تعالى وأعظم معبود له الهوى حتى إذا فعل ذلك انكشف له حقيقة الأمر في معنى اعتقاده الذي تلقفه تقليدا فينبغي أن يطلب كشف ذلك من المجاهدة لا من المجادلة فإن غلب عليه التعصب لمعتقده ولم يبق في نفسه متسع لغيره صار ذلك قيدا له وحجابا إذ ليس من شرط المريد الانتماء إلى مذهب معين أصلا وأما المعصية فهي حجاب ولا يرفعها إلا التوبة والخروج من المظالم وتصميم العزم على ترك العود وتحقيق الندم على ما مضى ، ورد المظالم وإرضاء الخصوم فإن من لم يصحح التوبة ولم يهجر المعاصي الظاهرة وأراد أن يقف على أسرار الدين بالمكاشفة كان كمن يريد أن يقف على أسرار القرآن وتفسيره وهو بعد لم يتعلم لغة العرب فإن ترجمة عربية القرآن لا بد من تقديمها أولا ثم الترقي منها إلى أسرار معانيه ، فكذلك لا بد من تصحيح الشريعة أولا وآخرا ثم الترقي إلى أغوارها وأسرارها .
، فإذا قدم هذه الشروط الأربعة وتجرد عن المال والجاه ، كان كمن تطهر وتوضأ ورفع الحدث وصار صالحا للصلاة ، فيحتاج إلى إمام يقتدى به فكذلك المريد يحتاج إلى شيخ وأستاذ يقتدى به لا محالة ليهديه إلى سواء السبيل ، فإن سبيل الدين غامض وسبل الشيطان كثيرة ظاهرة فمن ، لم يكن له شيخ يهديه قاده الشيطان إلى طرقه لا محالة ، فمن سلك سبل البوادي المهلكة بغير خفير قد خاطر بنفسه وأهلكها ويكون المستقل بنفسه كالشجرة التي تنبت بنفسها ، فإنها تجف على القرب ، وإن بقيت مدة وأورقت لم تثمر فمعتصم المريد بعد تقديم الشروط المذكورة شيخه فليتمسك به تمسك الأعمى على شاطئ النهر بالقائد بحيث يفوض أمره إليه بالكلية ولا يخالفه في ورده ولا صدره ، ولا يبقى في متابعته شيئا ولا يذر وليعلم أن نفعه في خطأ شيخه لو أخطأ أكثر من نفعه في صواب نفسه لو أصاب .
(بيان شروط الإرادة ومقدمات المجاهدة وتدريج المريد في سلوك سبيل الرياضة) *
ولنقدم قبل الخوض في شرح كلام المصنف تحقيق معنى الإرادة والمريد ، قال nindex.php?page=showalam&ids=12850القشيري في الرسالة: الإرادة بدء طريق السالكين ، وهي اسم لأول منزلة القاصدين إلى الله تعالى ، وإنما سميت هذه الصفة إرادة لأن الإرادة مقدمة كل أمر، فما لم يرد العبد شيئا لم يفعله ، فلما كان هذا أول الأمر لمن سلك طريق الله تعالى سمي إرادة تشبيها بالقصد في الأمور الذي هو مقدماتها ، والمريد على موجب الاشتقاق من له إرادة ، كما أن العالم من له علم ؛ لأنه من الأسماء المشتقة ، ولكن المريد في عرف هذه الطائفة من لا إرادة له ، فمن لم يتجرد عن إرادته لا يكون مريدا ، كما أن من لا إرادة له على موجب الاشتقاق لا يكون مريدا ، وتكلم الناس في معنى الإرادة ، فكل عبر على ما لاح لقلبه ، فأكثر المشايخ قالوا: الإرادة ترك ما عليه العادة ، وعادة الناس في الغالب التعريج على أوطان الغفلة والركون إلى اتباع الشهوة والإخلاد إلى ما دعت إليه المنية ، والمريد منسلخ عن هذه الجملة ، فصار خروجه أمارة على صحة الإرادة ، فسميت تلك الحالة إرادة وهي خروج عن العادة ، فإذا ترك العادة أمارة الإرادة ، فأما حقيقتها فهي نهوض القلب في طلب الحق سبحانه ، ولهذا يقال أنها لوعة تهون كل روعة ، وسمعت الأستاذ أبا علي يقول: الإرادة لوعة في الفؤاد ، لدغة في القلب ، غرام في الضمير ، انزعاج في الباطن بنيران تتأجج في القلوب .
وفرقوا بين المريد والمراد ، فقالوا: المريد هو المبتدي ، والمراد هو المنتهي ، وقيل: المريد هو الذي نصب بعين التعب وألقى في مقاساة المشاق ، والمراد هو الذي لقي بالأمر من غير مشقة ، فالمريد متعن ، والمراد مرفوق به مرفه، وسنة الله تعالى في القاصدين مختلفة ، فأكثرهم يوفقون للمجاهدات ، ثم يصلونه بعد مقاساة اللتيا والتي إلى سنى المعالي ، وكثير منهم يكاشفون في الابتداء بجليل المعاني ويصلون إلى ما لا يصل إليه كثير من أصحاب الرياضات ، إلا أن أكثرهم يرددون المجاهدات بعد هذه الأرفاق ليستوفي منهم ما فاتهم من أحكام أهل الرياضة. هذا حاصل ما أورده nindex.php?page=showalam&ids=12850القشيري .
ثم نعود إلى شرح كلام المصنف قال رحمه الله تعالى: (اعلم أن من شاهد الآخرة بقلبه مشاهدة يقين أصبح بالضرورة مريدا حرث الآخرة) يشير إلى قوله تعالى: من كان يريد حرث الآخرة نزد له في حرثه واستدل بهذه الآية على أصل الإرادة (مشتاقا إليها سالكا سلوكها مستهينا بنعيم الدنيا ولذاتها ، فإن من كان معه خرزة فرأى جوهرة نفيسة) ثمينة (لم تبق له رغبة في الخرزة) إذ لا قيمة لها (وقويت إرادته في بيعها بالجوهرة ، فمن ليس مريدا حرث الآخرة ولا طالبا للقاء الله) تعالى (فهو لعدم إيمانه بالله واليوم الآخر ، ولست أعني بالإيمان حديث القلب وحركة اللسان بكلمتي الشهادة من غير صدق وإخلاص ، فإن
[ ص: 369 ] ذلك يضاهي قول من صدق بأن الجوهرة خير من الخرزة إلا أنه لا يدري من الجوهر إلا لفظه) فقط (فأما حقيقته فلا ، ومثل هذا المصدق إذا ألف الخرزة) وأنس بها (قد لا يتركها ولا يعظم اشتياقه إلى الجوهرة ، فإذا المانع من الوصول إلى الله عدم السلوك) في طريق الله (والمانع من السلوك عدم الإرادة) التي هي التجرد لله في السلوك إلى كمال التوحيد (والمانع من الإرادة عدم الإيمان) بالله واليوم الآخر (وسبب عدم الإيمان) بالله واليوم الآخر ( عدم الهداية) لسبيله ( و) عدم ( المذكرين والعلماء بالله الهادين) للناس (إلى طريقه) وعدم (المنبهين على حقارة الدنيا، وعظم أمر الآخرة ودوامها) وفناء الدنيا (فالخلق) كلهم (غافلون) سكارى (قد انهمكوا في شهواتهم) ولذاتهم النفسانية (وغاصوا في) بحار (رقدتهم) وغفلتهم (وليس يوجد في علماء الدين من ينبههم من هذه) الرقدة (فإن تنبه منهم متنبه) بمساعدة التوفيق الإلهي (عجز عن سلوك الطرائق بجهله) عن السلوك (فإن طلب الطريق من العلماء) الموجودين في عصره (وجدهم مائلين إلى الهوى عادلين عن نهج الطريق ، فصار ضعف الإرادة) من السالك (والجهل بالطريق) لعدم المسلك (ونطق العلماء بالهوى سببا) قويا (لخلو طريق الله تعالى عن السالكين) فعظمت المصيبة وكبرت الطامة وأظلمت القلوب (ومهما كان المطلوب) الذي هو الوصول (محجوبا، والدليل) الذي يرشد إليه (مفقودا، والهوى) في الأدلة الموجودين (غالبا، والطالب) غرا (غافلا امتنع الوصول) إلى الله تعالى (وتعطلت الطرق لا محالة ، فإن تنبه المتنبه من نفسه) بسابق التوفيق (أو من تنبيه غيره وانبعثت له) من ذلك التنبيه (إرادة في حرث الآخرة وتجارتها ، فينبغي أن يعلم أن له شروطا لا بد من تقديمها) في بداية (الإرادة) فإن لم يراعها لم تصح الإرادة (وله معتصم لا بد من التمسك به) والاعتصام بحبله (وله حصن لا بد من التحصن به) والالتجاء إليه (ليأمن من الأعداء القطاع لطريقه وله) في إرادته (وظائف) معلومة (لا بد له من ملازمتها في وقت سلوك الطريق ، أما الشروط التي لا بد من تقديمها في الإرادة فهو رفع السد والحجاب الذي بينه وبين الحق ، فإن حرمان الخلق عن) الوصول إلى (الحق سببه تراكم الحجب) وتكاثفها (ووقوع السد على الطريق) الموصل له ، (قال) الله (تعالى: وجعلنا من بين أيديهم سدا ومن خلفهم سدا فأغشيناهم فهم لا يبصرون والسد بين المريد وبين الحق أربعة أمور: أحدها: المال ، و) الثاني: (الجاه ، و) الثالث: (التقليد) ، والرابع: (المعصية، وإنما يرتفع حجاب المال بأن يفرقه) حيث يفرقه (ويخرجه عن) حوزة (ملكه حتى لا يبقى إلا قدر ضرورته) المحوجة له (فما دام يبقى له درهم يلتفت إليه قلبه فهو مقيد به محجوب عن الله تعالى ، وإنما يرتفع حجاب الجاه بالبعد عن موضع الجاه ، وبالتواضع وإيثار الخمول) وهو الخفاء عن الناس (والهرب من أسباب الذكر) والشهرة (وتعاطي أعمال) خسيسة (تنفر قلوب الخلق) عن الميل إليه ، ونص nindex.php?page=showalam&ids=12850القشيري في الرسالة: وإذا أراد الخروج عن العلائق فأولها الخروج عن المال ، فإن ذلك الذي يميل به عن الحق ، ولم يوجد مريد دخل في هذا الأمر ومعه علاقة من الدنيا إلا جرته تلك العلاقة عن قريب إلى ما منه خرج ، فإذا خرج عن المال فالواجب عليه الخروج من الجاه ، فإن ملاحظة الجاه مقطعة عظيمة ، وما لم يستو عند المريد قبول الخلق وردهم لا يجيء منه شيء ، بل أضر الأشياء له ملاحظة الناس إياه بعين الإيثار والتبرك به لإفلاس الناس من هذا الحديث ، وهو
[ ص: 370 ] بعد لم يصحح الإرادة ، فكيف أن يتبرك به ، فخروجهم من المال واجب عليكم كخروجهم من الجاه ، فإذا خرج عن ماله وجاهه تمت الإرادة ، وقد اقتصر nindex.php?page=showalam&ids=12850القشيري على هذين ، ويجب على المريد بعد تخلصه من حب المال والجاه أن يتخلص من حب الرياسة في كونه زهد في الدنيا ، فيكون قد زهد في أمر دنيوي واستعوض عنه ما هو أفضل منه في دينه ، فإن الزهاد جاههم أكمل من جاه أبناء الدنيا ، فإنهم يذلون للزهاد ويتبركون بهم ، فمتى شربت نفس المريد من هذا جرعة خشي عليه التلف منها ، فإن فيها من اللذة ما يدعو لطيبها ، ثم قال nindex.php?page=showalam&ids=12850القشيري : وإذا خطر ببال المريد أن له في الدنيا وفي الآخرة قدرا أو قيمة ، وعلى بسيط الأرض أحد دونه لم يصح له في الإرادة قدم لأنه يجب أن يجتهد ليعرف ربه ليحصل لنفسه قدر، أو فرق بين من يريد الله وبين من يريد جاه نفسه ، إما في عاجله أو آجله ، ثم قال المصنف: (وإنما يرتفع حجاب التقليد بأن يترك التعصب للمذاهب) المتبوعة (وأن يصدق بمعنى قوله: لا إله إلا الله محمد رسول الله تصديق إيمان) لا تصديق حديث نفس (ويحرص في تحقيق صدقه بأن يرفع كل معبود له سوى الله) هذا حال المريد في ابتداء أمره ، فإنه هكذا يلاحظ هذا المعنى ، وأما المتوسط فإنه يلاحظ رفع كل مقصود له سوى الله تعالى كما أن المنتهي يلاحظ رفع كل موجود سوى الله ، ولذا قال بعضهم: ما لم ينته السير إلى الله تكون ملاحظة لا موجود إلا الله كفرا . ونقل عن الشيخ بهاء الدين نقشبند قدس سره في معنى الكلمة الطيبة نفي الإلهية الطبيعية ، وإثبات المعبود بحق ، ومعنى الجملة الثانية أنك أدخلت نفسك في مقام فاتبعوني ، (فأعظم معبود له الهوى) ، ويدل له قوله تعالى: أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم (حتى إذا انفعل ذلك انكشف له حقيقة الأمر في معنى اعتقاده الذي تلقفه) من الأفواه (تقليدا فينبغي أن يطلب كشف ذلك من المجاهدة) العملية (لا من المجادلة) اللسانية (فإن غلب عليه التعصب لعقيدة من العقائد ولم يبق في قلبه متسع لغيرها صار ذلك قيدا له وحجابا) مانعا (إذ ليس من شرط المريد الانتماء إلى مذهب معين أصلا) وقال nindex.php?page=showalam&ids=12850القشيري في الرسالة: أول قدم للمريد أن يكون على الصدق ليصح له البناء على أصل صحيح; فتجب البداية بتصحيح اعتقاد بينه وبين الله تعالى ، صاف عن الظنون والشبه، خال من الضلال والبدع صادر عن البراهين والحجج .
ويقبح للمريد أن ينتسب إلى مذهب من مذاهب أهل هذه الطريقة المختلفين سوى طريقة الصوفية والناس ؛ إما أصحاب النقل والأثر ، وإما أرباب العقل والفكر ، وشيوخ هذه الطائفة ارتقوا عن هذه الجملة ، فالذي للناس غيب فهو لهم ظهور ، والذي للخلق من المعارف مقصود فهو لهم من الحق موجود ، فهم أهل الوصال والناس أهل الاستدلال ، وهم كما قال القائل:
ليلي بوجهك مشرق * وظلامه في الناس سار والناس في سدف الظلا * م ونحن في ضوء النهار
(وأما المعصية فهي حجاب ولا يرفعها إلا التوبة) النصوح (والخروج من المظالم) التي عليه (وتعميم العزم على ترك العود) إلى تلك المظالم (وتحقيق الندم على ما مضى ، ورد المظالم) لأهلها (وإرضاء الخصوم) بأي وجه كان ، وهذه هي أركان التوبة كما سيأتي بيانها. قال nindex.php?page=showalam&ids=12850القشيري في الرسالة: إذا أنكر المريد بقلبه من سوء ما يصنعه وأبصر ما هو عليه من قبيح الأفعال سنح في قلبه إرادة التوبة والإقلاع عن قبيح المعاملة فيمده الحق سبحانه بتصحيح العزيمة والأخذ في جملة الرجعى والتأهب لأسباب التوبة ، فأول ذلك معجزات إخوان السوء ، فإنهم هم الذين يحملونه على رد هذا القصد ، ويشوشون عليه صحة هذا العزم ، ولا يتم ذلك إلا بالمواظبة على المشاهد التي تزيد رغبته في التوبة وتوفر دواعيه على إتمام ما عزم عليه مما يقوي خوفه ورجاءه ، فعند ذلك تنحل عن قلبه عقدة الإصرار ، على ما هو عليه من قبيح الأفعال فيقف عن تعاطي المحظورات ويكبح لجام نفسه عن متابعة الشهوات ، فيفارق الزلة في الحال ، ويبرم العزيمة على أن لا يعود إلى مثلها في الاستقبال ، فإن مضى على موجب قصده، ونفذ بمقتضى عزمه فهو الموفق صدقا، وإن نقض التوبة مرة أو مرات وتحمله إرادته على تجديدها ، فقد يكون مثل هذا كثيرا ، فلا ينبغي قطع الرجاء عن توبة أمثال هؤلاء ، فإن لكل
[ ص: 371 ] أجل كتابا، ولا يتم له شيء من هذا إلا بعد فراغه من إرضاء خصومه والخروج عما لزمه من مظالمه ، فإن أول منزلة في التوبة إرضاء الخصوم بما أمكنه، فإن اتسع ذات يده لإيصال حقوقهم إليهم أو سمحت نفوسهم بإحلاله والبراءة عنه، وإلا فالعزم بقلبه على أنه يخرج من حقوقهم عند الإمكان ، والرجوع إلى الله تعالى بصدق الابتهال والدعاء لهم (فإن من لم يصحح التوبة) من قلبه (ولم يهجر المعاصي الظاهرة) والزلات المكشوفة للناس (وأراد أن يقف على أسرار الدين بالمكاشفة) الغيبية (كان كمن يريد أن يقف على أسرار القرآن وتفسيره) لما فيه من الغرائب (وهو لم يتعلم لغة العرب بعد) ولم يتقنها فأنى له ذلك، (فإن ترجمة غريب القرآن لا بد من تقديمها أولا) وقد صنف فيه من المتقدمين أبو إسحاق الحربي وأبو إسحاق الزجاج ، وأبو عبيد القاسم بن سلام ثم تلاهم أبو منصور الأزهري وأبو عبيد الهروي وغيرهم (ثم الترقي منها إلى أسرار معانيه ، فكذلك لا بد من تصحيح ظاهر الشريعة أولا وآخرا ثم) يكون (الترقي منها إلى أسرارها) وبواطنها (وأغوارها ، فإذا قدم هذه الشروط الأربعة وتجرد عن المال والجاه ، كان كمن تطهر وتوضأ ورفع الحدث وصار صالحا للصلاة ، فيحتاج إلى إمام يقتدي به فكذلك المريد) في سلوك طريق الحق (يحتاج إلى شيخ) بصير (وأستاذ) كامل (يقتدي به لا محالة ليهديه إلى سواء السبيل ، فإن سبيل الدين غامض) أي: دقيق خفي (وسبل الشيطان كثيرة ظاهرة ، ومن لم يكن له شيخ يهذبه) ويؤدبه ويريه طريق الحق (قاده الشيطان لا محالة إلى طرقه ، فمن سلك البوادي المهلكة) والمفاوز المضلة (بنفسه من غير خفير) أي: دليل يرشد (فقد خاطر بنفسه) أي: رماها في خطر (وأهلكها) أي: تسبب لهلاكها ، ونص nindex.php?page=showalam&ids=12850القشيري في الرسالة: ثم يجب على المريد أن يتأدب بشيخ ، فإن من لم يكن له أستاذ لا يفلح أبدا ، وهذا أبو يزيد يقول من لم يكن له أستاذ فإمامه الشيطان سمعت أبا علي الدقاق يقول: العبادة بلا علم كالبنيان على السرقين اهـ .
ووقع في بعض كتب الصوفية من لم يكن له شيخ فشيخه الشيطان (ويكون المستقل بنفسه كالشجرة التي تنبت بنفسها ، فإنها تجف على القرب ، وإن بقيت مدة وأورقت لم تثمر) وقال nindex.php?page=showalam&ids=12850القشيري في الرسالة في آخر الكتاب في باب وصايا المريدين سمعت الأستاذ أبا علي الدقاق يقول: الشجرة إذا نبتت بنفسها من غير غارس ، فإنها تورق ولكن لا تثمر، كذلك المريد إذا لم يكن له أستاذ يأخذ عن طريقته نفسا فنفسا ، فهو عابد هواه لا يجد نفاذا ، وقال في باب الإرادة: سمعت أبا علي يقول: الشجر إذا نبت بنفسه ولم يستنبته أحد يورق ، ولكن لا يثمر ، كذلك المريد إذا لم يكن له أستاذ يتخرج به لا يجيء منه شيء (فمعتصم المريد بعد تقديم الشروط المذكورة شيخه فليتمسك به تمسك الأعمى على شط البحر بالقائد بحيث يفوض إليه أمره بالكلية ولا يخالفه) أصلا (في ورد ولا صدر ، ولا يبقي في متابعته شيئا ولا يذر) أي: ولا يترك، (ويعلم أن نفعه في خطأ شيخه لو أخطأ أكثر من نفعه في صواب نفسه لو أصاب) وعبارة nindex.php?page=showalam&ids=12850القشيري في الرسالة: وأن لا يخالف شيخه في كل ما يشير عليه ، فإن الخلاف شر للمريد في ابتداء أمره عظيم الضرر؛ لأن ابتداء حاله دليل على جميع عمره ، ومن شرطه أن لا يكون له بقلبه اعتراض على شيخه .