الحمد لله المنفرد بالجلال في كبريائه وتعاليه المستحق للتحميد والتقديس والتسبيح والتنزيه القائم بالعدل فيما يبرمه ويقضيه المتطول بالفضل فيما ينعم به ويسديه المتكفل بحفظ عبده في جميع موارده ومجاريه المنعم عليه بما يزيد على مهمات مقاصده ، بل بما يفي بأمانيه فهو الذي يرشده ويهديه وهو الذي يميته ويحييه وإذا مرض فهو يشفيه وإذا ضعف فهو يقويه وهو الذي يوفقه للطاعة ويرتضيه وهو الذي يطعمه ويسقيه ويحفظه من الهلاك ويحميه ويحرسه بالطعام والشراب عما يهلكه ويرديه ويمكنه من القناعة بقليل القوت ويقربه ، حتى تضيق به مجاري الشيطان الذي يناويه ويكسر به شهوة النفس التي تعاديه فيدفع شرها ثم يعبد ربه ويتقيه هذا بعد أن يوسع عليه ما يلتذ به ويشتهيه ، ويكثر عليه ما يهيج بواعثه ويؤكد دواعيه ؛ كل ذلك يمتحنه به ويبتليه فينظر كيف يؤثره على ما يهواه وينتحيه وكيف يحفظ أوامره وينتهي عن نواهيه ويواظب على طاعته وينزجر ، عن معاصيه ، والصلاة على محمد ، عبده النبيه ورسوله الوجيه صلاة تزلفه وتحظيه وترفع منزلته وتعليه وعلى الأبرار من عترته وأقربيه والأخيار من صحابته وتابعيه .
أما بعد ، فأعظم المهلكات لابن آدم شهوة البطن ، فبها أخرج آدم عليه السلام وحواء من دار القرار إلى دار الذل والافتقار إذ نهيا عن الشجرة فغلبتهما شهواتهما حتى أكلا منها فبدت لهما سوآتهما والبطن على التحقيق ينبوع الشهوات ومنبت الأدواء والآفات ، إذ يتبعها شهوة الفرج ، وشدة الشبق إلى المنكوحات ، ثم تتبع شهوة الطعام والنكاح شدة الرغبة في الجاه والمال ، اللذين هما وسيلة إلى التوسع في المنكوحات والمطعومات ، ثم يتبع استكثار المال والجاه أنواع الرعونات وضروب المنافسات والمحاسدات ، ثم يتولد بينهما آفة الرياء ، وغائلة التفاخر والتكاثر والكبرياء ، ثم يتداعى ذلك إلى الحقد والحسد والعداوة والبغضاء ، ثم يفضي ذلك بصاحبه إلى اقتحام البغي والمنكر والفحشاء وكل ذلك ثمرة إهمال المعدة وما يتولد منها من بطر الشبع والامتلاء ولو ذلل العبد نفسه بالجوع ، وضيق به مجاري الشيطان ، لأذعنت لطاعة الله عز وجل ، ولم تسلك سبيل البطر والطغيان ولم ينجر به ذلك إلى الانهماك في الدنيا ، وإيثار العاجلة على العقبى ولم يتكالب كل هذا التكالب على الدنيا وإذا عظمت آفة شهوة البطن إلى هذا الحد وجب شرح غوائلها وآفاتها ، تحذيرا منها ووجب إيضاح طريق المجاهدة لها والتنبيه على فضلها ؛ ترغيبا فيها ، وكذلك شرح شهوة الفرج ، فإنها تابعة لها ونحن نوضح ذلك بعون الله تعالى في فصول يجمعها ، بيان فضيلة الجوع ثم فوائده ، ثم طريق الرياضة في كسر شهوة البطن بالتقليل من الطعام والتأخير ، ثم بيان اختلاف حكم الجوع وفضيلته باختلاف أحوال الناس ، ثم بيان الرياضة في ترك الشهوة ، ثم القول في شهوة الفرج ، ثم بيان ما على المريد في ترك التزويج وفعله ، ثم بيان فضيلة من يخالف شهوة البطن والفرج والعين .
(بسم الله الرحمن الرحيم، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليما، الله ناصر كل صابر) .
الحمد لله المثيب لمن واظب على طاعاته، وزجر نفسه عن معاصيه، وكسر عن شهواته، المقبل على من أقبل [ ص: 384 ] إليه بأنواع قرباته، والهادي لمن اعتصم به سبيل الرشد والتوفيق بعناياته، nindex.php?page=showalam&ids=12251أحمد ه سبحانه وتعالى حمدا أستفتح به أبواب هباته، وأشكره شكرا أستجلب به المزيد من صوب سحائب رحمته، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة تعرب عن صميم المخلص في طوياته، وتقرب مقلدها من حظائر قدسه وحضراته، وأشهد أن سيدنا ومولانا محمدا عبده ورسوله وحبيبه وخليله، صفوة كائناته، وخلاصة خلاصاته، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ووارثيه وهداته، وسلم تسليما، وعظم تعظيما، وبعد. .
فهذا شرح (كتاب كسر الشهوتين) شهوة البطن، وشهوة الفرج، وهو الكتاب الثالث من الربع الثالث من كتاب الإحياء، للإمام حجة الإسلام، قطب الأئمة الأعلام، nindex.php?page=showalam&ids=14847أبي حامد الغزالي ، سقى الله بعهاد الرحمة ثراه، وأجزل في جنة الفردوس قراه .
تتبعت فيه تفصيل ما أجمله، وبيان ما أهمله، وضم ما أبداه ونشره، ونظم ما بدده ونثره بوجه يفيد للمطالع مضامنه، ويبرز للمراجع مكامنه، ويبين للطالب مقاصده، ويقيد للراغب أوابده، ويعلي للراقي مصاعده، ويقرب للشائق معاهده، ويبهج للناظر مشاهده، سلكت فيه طريق الإيجاز في البيان، ونبهت فيه على فوائد شريفة، هي جواهر حسان، والله أسأل الإعانة والتوفيق، والإبانة عن وجه التحقيق، لا إله غيره، ولا خير إلا خيره، وهو حسبي ونعم الوكيل .
قال المصنف رحمه الله تعالى في مفتتح كتابه: (بسم الله الرحمن الرحيم) ، استفتاحا لهذا الباب بمفتاح، هو مفتتح كل كتاب، وعنوان كل خطاب، ثم أردفه بجملة الحمد ليجمع بين الذكرين، ويعمل بمقتضى الخبرين، فقال: (الحمد لله) ، وهو ذكر أوصاف الكمال من حيث هو كمال، وهذا له تعالى خاصة، (المنفرد بالجلال) ، أي: المتناهي في عظم القدر (في كبريائه) أي: عظمته، (وتعاليه) أي: رفعته، وهو تفاعل من العلو، بمعنى الفوقية المطلقة في الرتبة، ومعنى تفرده به فيهما ألا يحيط به وصف الواصفين، بل علم العارفين (المستحق) أي: المستوجب (للتحميد) ، أي: لأن يحمد، وحمده لنفسه أزلا، ويحمده عباده له أبدا، فهو المحمود المثنى عليه، (والتقديس) هو التنزيه من كل وصف يدركه حس أو يتصوره خيال، أو يسبق إليه وهم، أو يختلج به ضمير، أو يفضي إليه فكر، (والتسبيح) ، هو التقديس والتنزيه، يقال: سبحت الله، أي: نزهته عما يقول الظالمون والجاحدون . (والتنزيه) يقال: نزهت الله عن السوء، أي: برأته منه، وفي ذكر التقديس والتنزيه بعد ذكره التعالي الذي هو تفاعل من العلو، وفيه نوع مبالغة؛ إشارة إلى أنه العلي المطلق الذي له الفوقية، لا بالإضافة، وبحسب الوجوب، لا بحسب الوجود الذي يقارنه إمكان نقيضه، وهو منزه عن العلو بالإضافة إلى بعض الموجودات، والإضافة إلى الوجود .
(القائم بالعدل) أي: السواء، (فيما يبرمه) أي: يحكمه، (ويقضيه) أي: يقدره من أفعاله، قد خلق أقسام الموجودات جسمانيها وروحانيها، ناقصها وكاملها، وأعطى كل شيء خلقه، وهو بذلك جواد، ورتبه في موضعه اللائق به، ولا يفهم صفة قيامه بالعدل إلا من أحاط علما بأفعال الله تعالى من ملكوت السموات إلى منتهى الثرى، حتى إذا لم ير في خلق الرحمن من تفاوت، ثم رجع فما رأى من فطور، ثم رجع كرة أخرى، فانقلب إليه البصر خاسئا وهو حسير، قد بهره جلال الحضرة الربوبية، وحيره اعتدالها وانتظامها، فحينئذ يعلق بفهمه شيء من هذه الصفة. (المتطول بالفضل) هو ابتداء إحسان بلا علة، وتطول به من (فيما ينعم به ويسديه) ، أي: يوصله، يقال: أسدى إليه معروفا، إذا اتخذه عنده، (المتكفل) "تفعل" من الكفل، وهو حياطة الشيء بجميع جهاته حتى يصير عليه كالفلك الدائر، (يحفظ عبده في جميع موارده ومجاريه) ، أي: جهاته، إذ ركبه من متعاديات متضادات؛ إذ لا بد له من حرارة غريزية، لو بطلت لبطلت حياته، ولا بد له من رطوبة تكون غذاء لبدنه، كالدم وما يجرى مجراه، ولا بد من يبوسة بها يتماسك أعضاؤه، وخصوصا ما صلب منها، كالعظام، ولا بد من برودة تكسر سورة الحرارة حتى تعتدل، ولا تحلل الرطوبات الباطنة بسرعة، فهذه متعاديات متنازعات، وقد جمع الله هذه في إهابه، ولولا حفظه إياها لتنافرت وتباعدت، وبطل امتزاجها، واضمحل تركيبها، وبطل المعنى الذي صارت به مستعدة بقوة التركيب [ ص: 385 ] والمزاج، وحفظ الله تعالى بتعديل قواها مرة، وبإمداد القلوب ثانيا، (المنعم عليه بما يزيد على مقاصده، بل بما يفي بأمانيه) ، جمع أمنية، وهي تقدير الوقوع فيما يترامى إليه الأمل، (فهو الأصل الذي يرشده) بتوفيقه (ويهديه) إلى سبيل الخير والرشد، عناية إلهية تعين الإنسان عند توجهه في أموره، فتقربه لما فيه صلاحه، وتفتره عما فيه فساده، وأكثر ما يكون ذلك من الباطن نحو قوله تعالى: ولقد آتينا إبراهيم رشده من قبل الآية، وللهداية ثلاث منازل في الدنيا ، الأول تعريف الخير والشر، والثاني ما يمد به حالا فحالا بحسب استزادته من العلم والعمل الصالح، والثالث نور الولاية التي هي في أفق نور النبوة، وبتحري هذه المنازل الثلاث يتوصل إلى الهداية للجنة، (وهو الذي يميته) بعد خلقه، (ويحييه) ثانيا بعد موته، (وإذا مرض) بطريان العلة في تركيب صورته، (فهو) الذي (يشفيه) أي: يزيل عنه تلك العلة، (وإذا ضعف) عن حمل ما حمل، (فهو) الذي (يقويه) ويدفع عنه ذلك الضعف، (وهو الذي يوفقه الطاعة) ، أي: يلهمه إياها إلهاما، ويسهل له سبلها، (ويرتضيه) أي: يجعله مرضيا، (وهو الذي يطعمه ويسقيه) ، أشار بهذه الفقرة إلى قوله تعالى -حكاية عن خليله إبراهيم عليه السلام-: والذي هو يطعمني ويسقين وإذا مرضت فهو يشفين والذي يميتني ثم يحيين الآية، (ويحفظه من الهلاك ويحميه) بصيانة بعض المتعاديات والمتضادات بعضها عن بعض، (ويحرسه بالطعام والشراب عما يهلكه ويرديه) ، أي: يوقعه في الردى، وذلك لأن إمداد القلوب إنما تتم بخلق الأطعمة والأدوية، وخلق الآلات المصلحة لها، وخلق المعرفة الهادية إلى استعمالها؛ حفظا لبدنه من المتضادات، وهذه هي الأسباب التي تحفظ الإنسان من الهلاك الداخل .
(ويمكنه من القناعة) أي: الاكتفاء (بقليل القوت، ويقويه) أي: يحفظ عليه قوته، (حتى تضيق به) أي: بالقناعة بالقوت اليسير، (مجاري الشيطان) أي: مداخله (الذي يناويه) أي: يعاديه؛ وذلك لأنه يجري من ابن آدم مجرى الدم، كما في الخبر، فإذا أقل القوت ضاقت العروق، ولم يتولد دم كثير; إذ إنما يتحصل بسبب الغذاء الكثير، فلا يرد على القلب من تلك المجاري دم، فيفيض ويصفو ويشرق نوره، (ويكسر به سطوة النفس التي تعاديه) ، فإن الشهوات إنما تنبعث من امتلاء العروق بالدم الحاصل من كثرة الأغذية، فإذا قل الغذاء قل الدم، فقلت سطوة النفس الأمارة بالسوء، (فيدفع شرها) بتلك الرياضة، (ثم يعبد ربه) بجمع همته، (ويتقيه) ، وتمام القوى لا يكون إلا بعد مخالفة الهوى ومعاداة النفس وكسر سورتها، (هذا بعد أن يوسع عليه بأنواع النعم وأصناف) الأفضال (ما يلتذ به ويشتهيه، ويكثر عليه ما يهيج بواعثه) ، أي: يحركها، (وجل دواعيه؛ كل ذلك ليمتحنه به ويبتليه) ، فإذا قهر تلك الشهوات ودفعها صار بذلك حرا تقيا، بل يصير إلهيا ربانيا، فتقل حاجاته، ويصير محسنا في معاملاته، فإن لم يمكنه إماتتها صار ملحقا بالبهائم، قال تعالى: ليبلوكم أيكم أحسن عملا ، (فينظر كيف يؤثره) أي: يختاره (على ما يهواه) ، ويستلذه، (وينتحيه) أي: يقصده بميل النفس إليه، (وكيف يحفظ أوامره) فيأتمر بها، (و) كيف (ينتهي عن نواهيه ومناهيه) ، أي: منهياته مما نهى الله عن ارتكابها، (و) كيف (يواظب) أي: يداوم (على طاعته، و) كيف (ينزجر عن معاصيه، والصلاة) مع السلام (على سيدنا محمد ، عبده) ونبيه (النبيه) ، من نبه نباهة، إذا شرف، (ورسوله الوجيه) من وجه وجاهة، إذا كان له حظ وروية (صلاة تزلفه) أي: تقربه إليه، (وتحظيه) أي: ترفع منزلته عنده، (وترفع محله) في أعلى عليين، (وتعليه) على مقامات إخوانه، (وعلى الأبرار من عترته) ، أي: نسله، (وأقربيه) هم الأدنون في النسب، (والأخيار من صحابته وتابعيه) ، أي: تابعي طريقته وسنته .
(أما بعد، فأعظم المهلكات لابن آدم شهوة البطن ، فبها أخرج آدم وحواء عليهما السلام من دار القرار) التي هي الجنة، (إلى دار الذل والافتقار) التي هي الأرض; (إذ نهيا عن) أكل (الشجرة) هي الحنطة، أو الكرمة، أو التينة أو شجرة من أكل منها أحدث، والأولى ألا تعين من غير قاطع، كما لم تعين في الآية؛ لعدم توقف ما هو المقصود عليه، قال nindex.php?page=showalam&ids=13926البيضاوي : (فغلبتهما شهوتهما) بوسوسة إبليس، ألقى في خاطرهما (حتى أكلا منها فبدت لهما سوآتهما) أي: انكشفت عوراتهما، وأخرجا مما كانا فيه من الكرامة والنعيم، والقصة [ ص: 386 ] مشهورة في القرآن، (والبطن على التحقيق ينبوع الشهوات ومنبع الآفات، إذ تتبعه شهوة الفرج، وشدة الشبق) محركة، أي: الهيجان (إلى المنكوحات، ثم تتبع شهوة الطعام والنكاح شدة الرغبة) ، والميل (في الجاه والمال، اللذين هما الوسيلة إلى التوسع في المنكوحات والمطعومات، ثم يتبع استكثار المال والجاه أنواع الرعونات) ، وأصل الرعونة إفراط الجهالة، أو الوقوف مع حظ النفس ومقتضى طباعها، (وضروبات المنافسات والمحاسدات، ثم تتولد بينهما آفة الرياء، وغائلة التفاخر والتكاثر والكبرياء، ثم يتداعى ذلك إلى) ارتكاب (الحقد والحسد والعداوة والبغضاء، ثم يفضي بصاحبه إلى اقتحام البغي والمنكر والفحشاء) ، وكل ذلك ثمرة إهمال المعدة، وترك سياستها، وإهمال (ما يتولد منها من بطر الشبع والامتلاء) ، أي: البطر الحاصل منهما، (ولو ذلل العبد نفسه بالجوع، وضيق به مجاري الشيطان التي يدخل منها، لأذعنت لطاعة الله عز وجل، ولم تسلك سبل البطر والطغيان) على الله عز وجل، (ولم ينجر به ذلك إلى الانهماك في الدنيا، وإيثار العاجلة على الآجلة) ، وقد ذم الله تعالى هذا الإيثار فقال: بل تؤثرون الحياة الدنيا والآخرة خير وأبقى ، (ولم يتكالب كل هذا التكالب على الدنيا) ، والتكالب هو التواثب، (وإذا عظمت آفة شهوة البطن إلى هذا الحد وجب شرح غوائلها وآفاتها، تحذيرا) عنها، (ووجب إيضاح طريق هذه المجاهدة والتنبيه على فضلها؛ ترغيبا، وكذلك شرح شهوة الفرج، فإنها تابعة لها) ، أي: لشهوة البطن، (ونحن نوضح ذلك بعون الله تعالى في فصول نجمعها، وهو بيان فضيلة الجوع) وما فيها من الأخبار والآثار، (ثم فوائده، ثم طريق الرياضة في كسر شهوة البطن بالقليل من الطعام والتأخير، ثم بيان اختلاف حكم الجوع وفضيلته باختلاف أحوال الناس، ثم بيان الرياء في ترك الشهوة، ثم القول في شهوة الفرج، ثم بيان ما على المريد في ترك التزوج وفعله، ثم بيان فضيلة من يخالف شهوة البطن والفرج والعين) ، فهي ثمانية فصول .