الوظيفة الثالثة في نوع الطعام وترك الإدام وأعلى الطعام مخ البر فإن نخل فهو غاية الترفه وأوسطه شعير منخول وأدناه شعير لم ينخل وأعلى الأدم اللحم والحلاوة وأدناه الملح والخل وأوسطه المزورات بالأدهان من غير لحم وعادة سالكي طريق الآخرة الامتناع من الإدام على الدوام ، بل الامتناع عن الشهوات ؛ فإن كل لذيذ يشتهيه الإنسان وأكله ، اقتضى ذلك بطرا في نفسه وقسوة في قلبه ، وأنسا له بلذات الدنيا حتى يألفها ويكره الموت ولقاء الله تعالى وتصير الدنيا جنة في حقه ، ويكون الموت سجنا له وإذا منع نفسه عن شهواتها وضيق عليها وحرمها لذاتها صارت الدنيا سجنا عليه ومضيقا له فاشتهت نفسه الإفلات منها ، فيكون الموت إطلاقها وإليه الإشارة بقول يحيى ابن معاذ حيث قال : معاشر الصديقين ، جوعوا أنفسكم لوليمة الفردوس ؛ فإن شهوة الطعام على قدر تجويع النفس فكل ما ذكرناه من آفات الشبع فإنه يجري في كل الشهوات وتناول اللذات ، فلا نطول بإعادته ، فلذلك يعظم الثواب .
في ترك الشهوات من المباحات ، ويعظم الخطر في تناولها ، حتى قال صلى الله عليه وسلم : شرار أمتي الذين يأكلون مخ الحنطة وهذا ليس بتحريم بل هو مباح على معنى أن من أكله مرة أو مرتين لم يعص ومن دام عليه أيضا فلا يعصي بتناوله ، ولكن تتربى نفسه بالنعيم ، فتأنس بالدنيا ، وتألف اللذات ، وتسعى في طلبها فيجرها ذلك إلى المعاصي ، فهم شرار الأمة لأن مخ الحنطة يقودهم إلى اقتحام أمور ، تلك الأمور معاص .
(الوظيفة الثالثة في نوع الطعام وترك الإدام ) وهو -أي: الطعام- على ثلاث مراتب، (وأعلى الطعام مخ البر) أي: لبابه الذي يتحصل بعد نخل دقيقه بالمنخل الحرير بعد المنقلة، (فإن نخل) كذلك، (فهو غاية الترفه) وخبزه يعرف بالسميذ، أو لا ينخل مطلقا، وخبزه هو المعروف بالخشكار، وفيه مرتبة تليها، وذلك أن ينخل بالمنخل الغير المانع، وهي ملحقة بالأولى؛ لما فيه من الترفه أيضا، (وأوسطه شعير منخول) كما ذكرنا، (وأدناه شعير لم ينخل) ، وإنما يعجن بما فيه من النخالة، سواء نفخ فطار منه ما طار، أو لم ينفخ، (وأعلى الأدم اللحم) ، وقد وردت فيه أخبار تؤذن بعلوه. ففي حديث بريدة عند nindex.php?page=showalam&ids=13933البيهقي في الشعب: nindex.php?page=hadith&LINKID=846119 "سيد الإدام في الدنيا والآخرة اللحم" . (والحلاوة) وهي المركبة من سمن وعسل، ولها أنواع تقدم ذكرها في كتاب الأطعمة، (وأدناه الملح والخل) ، أي: كل منهما بانفراده عن الآخر، (وأوسطه المزورات) وهي الأطعمة التي لا يكون فيها شيء من اللحوم بخلاف المزفرات، وإنما اتخذت (بالأدهان) ، والأدهان كسائر السمون، وما يعصر من قلوب الأشجار، كاللوز والفستق والجوز، وكالزيت ودهن السمسم (من غير لحم) أي: من غير أن يكون فيها شيء من لحم، كما ذكرناه، وفي القوت: فإن كان لا بد من فاكهة مع الخبز الذي هو قوت النفس، فكما أطعم الله الفقراء في الكفارة، وهو التوسط في الإدام الذي أمر به وأحبه للفقراء من الخبز واللبن; لأن أعلى الإدام اللحم والحلواء، وأدناه الملح والخل، فلم يأمر تعالى بأعلاه؛ لأنه يشق على الأغنياء، ولم يأمر بأدناه; لأنه يشق على الفقراء، وتوسط الأمر بينهما فقال: من أوسط ما تطعمون أهليكم ، فهو ما ذكرناه على ذلك. (وعادة سالكي طريق الآخرة الامتناع من الإدام على الدوام، بل الامتناع من الشهوات مطلقا؛ فإن كل لذيذ يشتهيه الإنسان) وتدعو إليه نفسه وتطالبه به، (وأكله، اقتضى ذلك بطرا في نفسه) من جهة متابعته للشهوة، (وقسوة في قلبه، وأنسا له بلذات الدنيا حتى يألفها) ويأنس بها، (ويكره الموت ولقاء الله تعالى) لا محالة; لأن الفطم عن المألوف صعب، (وتصير الدنيا جنة في حقه، ويكون الموت سجنا له) ومضيقا [ ص: 412 ] (وإذا منع نفسه شهواتها وضيق عليها وحرمها) أي: منعها، (فاشتهت نفسه الانفلات منها سريعا، فيكون الموت إطلاقها) من ذلك المضيق والحبس، وقد روى nindex.php?page=showalam&ids=17080مسلم من حديث nindex.php?page=showalam&ids=3أبي هريرة : nindex.php?page=hadith&LINKID=662264 "الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر" . ورواه nindex.php?page=showalam&ids=13863البزار والعسكري nindex.php?page=showalam&ids=15007والقضاعي من حديث nindex.php?page=showalam&ids=12ابن عمر مثله .
وروى nindex.php?page=showalam&ids=12251أحمد من حديث nindex.php?page=showalam&ids=13عبد الله بن عمرو : nindex.php?page=hadith&LINKID=662264 "الدنيا سجن المؤمن وسنته، فإذا فارق الدنيا فارق السجن والسنة" . (وإليه الإشارة بقول يحيى بن معاذ) الرازي الواعظ رحمه الله تعالى، (حيث قال: معاشر الصديقين، جوعوا أنفسكم لوليمة الفردوس؛ فإن شهوة الطعام على قدر تجويع النفس) ، نقله صاحب القوت، ففيه إشارة إلى أن من يؤثر الآخرة ولذتها وطعامها ينهى نفسه عن لذة الدنيا، ويكفها عن شهواتها، وكلما زادت رياضة النفس بالتجويع زادت شهوتها إلى الطعام، (فكل ما ذكرناه من آفات الشبع) فيما تقدم، (فإنها تجري في كل الشهوات وتناول اللذات، فلا نطول بإعادته، فلذلك يعظم الثواب في ترك الشهوات من المباحات، ويعظم الخطر في تناولها، حتى قال صلى الله عليه وسلم: شرار أمتي الذين يأكلون مخ الحنطة ) قال العراقي : لم أجد له أصلا، (وهذا) إن صح وروده (ليس بتحريم) لمخ الحنطة، (بل هو مباح على معنى أن من أكله مرة أو مرتين لم يعص) الله تعالى، (ومن داوم عليها أيضا لا يعصي) الله تعالى (بتناوله، ولكن تتربى نفسه بالنعيم، فتأنس بالدنيا، وتألف اللذات، وتسعى في طلبها) على قدر الجهد، (فيجرها ذلك إلى المعاصي، فهم شرار الأمة) بهذا المعنى; (لأن مخ القمح) مع المداومة عليه (يقودهم إلى اقتحام) أي: ارتكاب (أمور، تلك الأمور معاص) لله تعالى .
(وقال صلى الله عليه وسلم: nindex.php?page=hadith&LINKID=944369شرار أمتي الذين غذوا بالنعيم، وبنيت عليه أجسامهم، وإنما همتهم أنواع الطعام وأنواع اللباس، ويتشدقون في الكلام ) أي: يتوسعون فيه من غير تحرز ولا احتياط. قال العراقي : رواه nindex.php?page=showalam&ids=13357ابن عدي في الكامل من طريق nindex.php?page=showalam&ids=13933البيهقي في الشعب من حديث nindex.php?page=showalam&ids=129فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وروي من حديث فاطمة بنت الحسين مرسلا، قال nindex.php?page=showalam&ids=14269الدارقطني في العلل: إنه أشبه بالصواب، ورواه nindex.php?page=showalam&ids=12181أبو نعيم في الحلية من حديث nindex.php?page=showalam&ids=25عائشة بإسناد لا بأس به. اهـ .