اعلم أن المطلوب الأقصى في جميع الأمور والأخلاق الوسط ; إذ خير الأمور أوساطها وكلا طرفي قصد الأمور ذميم وما أوردناه في فضائل الجوع ربما يومئ إلى أن الإفراط فيه مطلوب ، وهيهات ولكن من ، أسرار حكمة الشريعة أن كل ما يطلب الطبع فيه الطرف الأقصى وكان فيه فساد جاء الشرع بالمبالغة في المنع منه على وجه يومئ عند الجاهل إلى أن المطلوب مضادة ما يقتضيه الطبع بغاية الإمكان ، والعالم يدرك أن المقصود الوسط ; لأن الطبع إذا طلب غاية الشبع ، فالشرع ينبغي أن يمدح غاية الجوع حتى يكون الطبع باعثا ، والشرع مانعا فيتقاومان ، ويحصل الاعتدال ، فإن من يقدر على قمع الطبع بالكلية بعيد ، فيعلم أنه لا ينتهي إلى الغاية ، فإنه إن أسرف مسرف في مضادة الطبع كان في الشرع أيضا ما يدل على إساءته ، كما أن الشرع بالغ في الثناء على قيام الليل وصيام النهار ، ثم لما علم النبي صلى الله عليه وسلم من حال بعضهم أنه يصوم الدهر كله ، ويقوم الليل كله ، نهى عنه .
فإذا عرفت هذا فاعلم أن الأفضل بالإضافة إلى الطبع المعتدل أن يأكل بحيث لا يحس بثقل المعدة ولا ، يحس بألم الجوع ، بل ينسى بطنه ، فلا يؤثر فيه الجوع أصلا ، فإن مقصود الأكل بقاء الحياة ، وقوة العبادة وثقل المعدة يمنع من العبادة وألم الجوع أيضا يشغل القلب ويمنع منها فالمقصود أن يأكل أكلا لا يبقى للمأكول فيه أثر ليكون متشبها بالملائكة فإنهم مقدسون عن ثقل الطعام وألم الجوع ، وغاية الإنسان الاقتداء بهم وإذا لم يكن للإنسان خلاص من الشبع والجوع ، فأبعد الأحوال عن الطرفين الوسط ، وهو الاعتدال .
ومثال طلب الآدمي البعد عن هذه الأطراف المتقابلة بالرجوع إلى الوسط ، مثال نملة ألقيت في وسط حلقة محمية على النار مطروحة على الأرض ، فإن النملة تهرب من حرارة الحلقة ، وهي محيطة بها ، لا تقدر على الخروج منها ، فلا تزال تهرب حتى تستقر على المركز الذي هو الوسط ، فلو ماتت ماتت على الوسط ; لأن الوسط هو أبعد المواضع عن الحرارة التي في الحلقة المحيطة ، فكذلك الشهوات محيطة بالإنسان إحاطة تلك الحلقة بالنملة ، والملائكة خارجون عن تلك الحلقة ، ولا مطمع للإنسان في الخروج وهو يريد أن يتشبه بالملائكة في الخلاص فأشبه أحواله بهم البعد .
(اعلم أن المطلوب الأقصى في جميع الأمور والأخلاق الوسط; إذ خير الأمور أوسطها) ، كما ورد في الخبر، وتقدم الكلام عليه، (وكلا طرفي قصد الأمور ذميم) قال صاحب القوت: قال nindex.php?page=showalam&ids=17285وهب بن منبه : لكل شيء وسط وطرفان، فإذا أمسكت أحد الطرفين مال الآخر، وإن أمسكت الوسط اعتدل الطرفان، قلت: أخرجه صاحب الحلية من طريق عبد الصمد بن معقل عن عمه وهب ، وزاد: ثم قال: عليكم بالأوسط من الأشياء، (وما أوردناه في فضائل الجوع فربما يومئ) أي: يشير (إلى أن الإفراط فيه مطلوب، وهيهات، فمن أسرار حكمة الشريعة) الخفية (أن كل ما يطلب الطبع فيه الطرف الأقصى) أي: الأبعد، (وكان فيه فساد) ، إما حالا أو مآلا، (جاء الشرع بالمبالغة في المنع منه) ، والزجر عنه، (على وجه يومئ عند الجاهل) بالأسرار (إلى أن المطلوب مضادة ما يقتضيه الطبع بغاية الإمكان، والعالم) الكامل في معرفته (يدرك) من ذلك (أن المقصود) هو (الوسط; لأن الطبع إذا طلب غاية الشبع، فالشرع ينبغي أن يمدح غاية الجوع حتى يكون الطبع باعثا، والشرع مانعا، فيتقومان، ويحصل الاعتدال، فإن من يقدر على قمع الطبع بالكلية بعيد، فيعلم أنه لا ينتهي إلى الغاية، فإنه إن أسرف مسرف في مضادة الطبع كان في الشرع أيضا ما يدل على إساءته، كما أن الشرع بالغ في الثناء على قيام الليل وصيام النهار، ثم لما علم النبي صلى الله عليه وسلم من حال بعضهم) وهو nindex.php?page=showalam&ids=13عبد الله بن عمرو بن العاص (أنه يصوم الدهر كله، ويقوم الليل كله، نهى عنه) ، كما هو في الصحيحين، ومر في كتاب صلاة الليل، (فإذا عرفت هذا فاعلم أن الأفضل بالإضافة إلى الطبع المعتدل أن يأكل بحيث لا تثقل المعدة، و) بحيث (لا يحس بألم الجوع، بل ينسى بطنه، فلا يؤثر فيه الجوع أصلا، فإن مقصود الأكل بقاء رمق الحياة، وقوة العبادة ) بأن يكون أداؤه للفرائض من قيام، (وثقل المعدة يمنع من العبادة) أي: من القيام إليها [ ص: 422 ] (وألم الجوع أيضا يشغل القلب ويمنع منه) ، فكلاهما من المشوشات، (فالمقصود أن يأكل أكلا لا يبقى للمأكول فيه أثر) لا في ظاهره ولا باطنه، (ليكون متشبها بالملائكة) عليهم السلام، (فإنهم) عباد مكرمون (مقدسون من ثقل الطعام وألم الجوع، وغاية الإنسان) في فضله (الاقتداء بهم) واللحوق بزمرتهم، (وإذا لم يكن للإنسان خلاص من الشبع والجوع، فأبعد الأحوال عن الطرفين الوسط، وهو الاعتدال، ومثال طلب الآدمي البعد عن هذه الأطراف المتقابلة بالرجوع إلى الوسط، مثال نملة ألقيت في وسط حلقة محمية بالنار مطروحة على الأرض، فإن النملة تهرب من حرارة الحلقة، وهي محيطة بها، لا تقدر على الخروج منها، فلا تزال تهرب) في كل ناحية منها (حتى تستقر على المركز الذي هو الوسط، فلو ماتت ماتت على الوسط; لأن الوسط هو أبعد المواضع عن الحرارة التي في الحلقة المحيطة، فكذلك الشهوات محيطة بالإنسان إحاطة تلك الحلقة بالنملة، والملائكة خارجون عن تلك الحلقة، ولا مطمع للإنسان في الخروج) منها؛ إذ هي خلقت معه، فلا تفارقه، (وهو) مع ذلك (يريد أن يتشبه بالملائكة) بخروجه عن الصفات البهيمية (في الخلاص) منها، (فأشبه أحواله بهم البعد) عن الشهوات .