وأما عدم تصديهم للتدريس والتصنيف فيه فهكذا كان دأبهم في الفقه والتفسير والحديث أيضا فإن جاز تصنيف الفقه ووضع الصور النادرة التي لا تتفق إلا على الندور إما إدخار اليوم وقوعها ، وإن كان نادرا ، أو تشحيذا للخواطر فنحن أيضا نرتب طرق المجادلة لتوقع وقوع الحاجة بثوران شبهة أو هيجان مبتدع أو لتشحيذ الخاطر أو لادخار الحجة حتى لا يعجز عنها عند الحاجة على البديهة والارتجال كمن يعد السلاح قبل القتال ليوم القتال ، فهذا ما يمكن أن يذكر للفريقين .
فإن قلت : فما المختار عندك فيه ؟ فاعلم أن الحق فيه أن إطلاق القول بذمه في كل حال ، أو بحمده في كل حال ، خطأ ، بل لا بد فيه من تفصيل .
فاعلم أولا أن الشيء قد يحرم لذاته ، كالخمر والميتة ، وأعني بقولي " لذاته " أن علة تحريمه وصف في ذاته ، وهو الإسكار والموت .
وهذا إذا سئلنا عنه أطلقنا القول بأنه حرام ولا يلتفت إلى إباحة الميتة عند الاضطرار ، وإباحة تجرع الخمر إذا غص الإنسان بلقمة ولم يجد ما يسيغها سوى الخمر وإلى ما يحرم لغيره كالبيع على بيع أخيك المسلم في وقت الخيار والبيع وقت النداء وكأكل الطين ؛ فإنه يحرم لما فيه من الإضرار وهذا ينقسم إلى ما يضر قليله وكثيره ، فيطلق القول عليه بأنه حرام ، كالسم الذي يقتل قليله وكثيره وإلى ما يضر عند الكثرة فيطلق القول عليه بالإباحة ، كالعسل ؛ فإن كثيره يضر بالمحرور وكأكل الطين .
(أما عدم تصديهم) أي: تعرضهم (للتدريس والتصنيف) فيه (فهكذا كان في الفقه والتفسير والحديث أيضا) ؛ لأن الكتب المؤلفة في العلوم محدثة باتفاق، كما سبقت الإشارة إليه في كتاب العلم (فإن جاز تصنيف الفقه ووضع الصور النادرة) الغريبة (التي) لم تقع و (لا تتفق إلا على) سبيل (الندور) والقلة (إما ادخارا) وحفظا لها (ليوم وقوعها، وإن كان نادرا، أو تشحيذا للخاطر) من شحذ الحديدة شحذا، من باب نفع، والذال المعجمة، إذا أحددتها، وفي بعض النسخ: "أو لتشحيذ الخاطر"، (أو لادخار الحجة) عنده (حتى لا يعجز عنها عند) مسيس (الحاجة على البديهة والارتجال) يقال: بدهه بدها، إذا بغته، وسميت البديهة لأنها تبغت وتسبق، والارتجال إتيان الكلام من غير روية ولا فكر (كمن يعد السلاح) أي: يهيئه (قبل القتال) أي: قبل حضوره وملابسته له (ليوم القتال، فهذا) الذي قرر (مما يمكن أن يذكر للفريقين) أي: في احتجاج كل منهما على جواز الاشتغال به وعدمه .
(فإن قلت: فما المختار فيه) وفي نسخة "منه" (عندك؟) أي: ما الذي تختاره وتذهب إليه (فاعلم أن الحق فيه أن إطلاق القول بذمه) أي: كونه مذموما مطلقا (في كل حال، أو بحمده) أي: كونه محمودا مطلقا (في كل حال، خطأ، بل لا بد فيه من تفصيل) يظهر سياقه وجه الحق (فاعلم أولا أن الشيء قد يحرم لذاته، كالخمر والميتة، وأعني بقولي "لذاته" أن علة تحريمه وصف في ذاته، وهو الإسكار) في الخمر (والموت) في الميتة (وهذا إذا سئلنا عنه أطلقنا القول بأنه حرام) ؛ نظرا إلى هذه العلة (ولا يلتفت إلى إباحة الميتة عند الاضطرار، وإباحة تجرع الخمر إذا غص الإنسان بلقمة) أي: نشبت في حلقه (ولم يجد ما يسيغها) وينزلها (سوى الخمر) .
وكأن هذا جواب عن سؤال مقدر بقول القائل: كيف يجوز إطلاق القول فيهما بالحرمة، مع أنهما قد يباحان في وقت؟ فأجاب بأن ذلك نادر ولا حكم للنادر (وإلى ما يحرم لغيره) لا لذاته (كالبيع على بيع أخيك في وقت الخيار) أي: الاختيار (والبيع وقت النداء) أي: الأذان، فكل منهما ورد النهي عنهما في عدة أحاديث (وكأكل الطين؛ فإنه يحرم لما فيه من الضرر) للبدن (وهذا ينقسم إلى ما يضر قليله وكثيره، فيطلق عليه بأنه حرام، كالسم الذي يقتل قليله وكثيره) وهو أنواع كثيرة، ما بين حيواني ونباتي ومعدني (وإلى ما يضر [ ص: 58 ] عند الكثرة) فقط (فيطلق القول عليه بالإباحة، كالعسل؛ فإن كثيره يضر بالمحرور) المزاج في البلاد الحارة (وكأكل الطين) ؛ فإنه كذلك كثيره يضر بالبدن .
(وكان إطلاق التحريم على الخمر، والتحليل على العسل التفاتا) أي: نظرا (إلى أغلب الأحوال؛ فإن تصدى شيء) أي: تعرض (تقابلت فيه الأحوال فالأولى والأبعد عن الالتباس أن يفصل) فيها .