وأما منفعته فقد يظن أن فائدته كشف الحقائق ومعرفتها على ما هي عليه وهيهات فليس في الكلام وفاء بهذا المطلب الشريف ولعل التخبيط والتضليل فيه أكثر من الكشف والتعريف وهذا إذا سمعته من محدث أو حشوي ربما خطر ببالك أن الناس أعداء ما جهلوا فاسمع هذا ممن خبر الكلام ثم قلاه بعد حقيقة الخبرة وبعد التغلغل فيه إلى منتهى درجة المتكلمين وجاوز ذلك إلى التعمق في علوم أخر تناسب نوع الكلام وتحقق أن الطريق إلى حقائق المعرفة من هذا الوجه مسدود .
ولعمري لا ينفك الكلام عن كشف وتعريف وإيضاح لبعض الأمور ، ولكن على الندور في أمور جلية تكاد تفهم قبل التعمق في صنعة الكلام بل منفعته شيء واحد ، وهو حراسة العقيدة التي ترجمناها على العوام ، وحفظها عن تشويشات المبتدعة بأنواع الجدل فإن العامي ضعيف يستفزه جدل المبتدع ، وإن كان فاسدا ، ومعارضة الفاسد بالفاسد تدفعه .
، والناس متعبدون بهذه العقيدة التي قدمناها ؛ إذ ورد الشرع بها لما فيها من صلاح دينهم ودنياهم وأجمع السلف الصالح عليها والعلماء يتعبدون بحفظها على العوام من تلبيسات المبتدعة ، كما تعبد السلاطين بحفظ أموالهم عن تهجمات الظلمة والغصاب .
(وأما منفعته فقد يظن أن فائدته كشف الحقائق ومعرفتها على ما هي عليها) وهو مقام الكشف والمشاهدة وعمارة السر بأنوار اليقين، وحصول العلم المضارع للضروري (فليس في الكلام وفاء بهذا المطلب الشريف) ومن أين للنازل طي المنازل؟! (ولعل التخبيط والتضليل فيه أكثر من الكشف والتعريف) ؛ إذ أكثره عمل النفس وتخليق الفهم .
(وهذا) الكلام (إذا سمعته من محدث) وهو المشتغل بعلم الحديث بسائر فنونه، العارف برجاله ومتونه (أو حشوي) هو بالتحريك من يتتبع ظواهر الأحاديث. قال اليوسي في حاشية الكبرى: نسبة إلى الحشاء، أي: الجانب والطرف، سموا بذلك لقول nindex.php?page=showalam&ids=14102الحسن البصري: وكان أوائلهم يجلسون إليه بين يديه، ثم وجد كلامهم ساقطا، ردوا هؤلاء إلى حشاء الحلقة، أي: جانبها، أو بسكون الشين من الحشو؛ لقولهم بذلك في القرآن حيث زعموا أن في الكتاب والسنة ما لا معنى له. اهـ .
(ربما خطر ببالك أن [ ص: 59 ] الناس أعداء ما جهلوا) ، ومن جهل شيئا عاداه .
(فاسمع هذا ممن خبر الكلام) ، وسبره ودخل فيه وخرج وألف فيه عدة تآليف، (ثم قلاه) أي: أبغضه وتركه (بعد حقيقة الخبرة) أي: الاختبار الكلي (بعد التغلغل فيه) أي: الدخول في وسطه (إلى) أن وصل (منتهى درجة المتكلمين) وأقصى رتبتهم (وجاوز ذلك إلى التعمق في علوم أخر تناسب نوع الكلام) من العلوم الفلسفية (وتحقق أن الطريق إلى حقائق المعرفة) كما هي عليها (من هذا الوجه مسدود) كما ذكر ذلك في كتابه "المنقذ من الضلال"، فقال في أوله: ولم أزل في عنفوان شبابي عندما راهقت البلوغ قبل العشرين إلى الآن، وقد أناف سني على الخمسين، أقتحم لجة هذا البحر العميق وأخوض غمرته خوض الجسور، لا خوض الجبان الحذور، وأتوغل في كل مضلة وأهم على كل مشكلة وأقتحم كل ورطة وأتفحص عن عقيدة كل فرقة وأستكشف أسرار مذهب كل طائفة، لا ميز بين محق ومبطل ومستن ومبتدع، إلى أن قال: وقد كان التعطش إلى درك حقائق الأمور، أي: من أول أمري، غريزة وفطرة من الله تعالى، وضعها في جبلتي، لا باختياري وحيلتي، حتى انحلت عني رابطة التقليد، ثم ابتدأت بعلم الكلام، فحصلته وعقلته وطالعت كتب المحققين منهم، وصنفت فيه ما أردت أن أصنف، فصادفته علما وافيا بمقصوده، غير واف بمقصودي. اهـ .
وسيأتي بقية هذه العبارة فيما بعد (ولعمري لا ينفك الكلام عن كشف وتعريف وإيضاح لبعض الأمور، ولكن على) سبيل (الندور) والقلة (وفي أمور جلية) ظاهرة (تكاد تفهم قبل التعمق في صنعة الكلام) بأصل الفطرة والجبلة (بل منفعته شيء واحد، وهو حراسة العقيدة التي ترجمناها على العوام، وحفظها عن تشويشات المبتدعة بأنواع الجدل) .
وقال المصنف في كتابه "المنقذ": وإنما المقصود منه حفظ عقيدة أهل السنة وحراستها عن تشويش أهل البدع، فقد ألقى الله تعالى إلى عباده على لسان رسوله -صلى الله عليه وسلم- عقيدة هي الحق على ما فيه صلاح دينهم ودنياهم، كما نطق بمقدماته القرآن والأخبار (والعلماء متعبدون بحفظ ذلك على العوام من تلبيسات المبتدعة، كما تعبد السلاطين بحفظ أموالهم عن تقحمات) وفي نسخة "عن تهجمات" (الظلمة والغصاب) جمع غاصب، وهو الذي يأخذ المال قهرا .
وقال المصنف في "المنقذ": ولما كان أكثر خوض المتكلمين في استخراج مناقضات الخصوم ومؤاخذتهم بلوازم مسلماتهم، وهذا قليل النفع في حق من لا يسلم سوى الضروريات شيئا لم يكن الكلام في حقي كافيا، ولا لدائي الذي أشكوه شافيا .
نعم، لما نشأت صنعة الكلام وكثر الخوض فيه وطالت المدة، تشوف المتكلمون إلى مجاوزة الذب عن الشبهة بالبحث عن حقائق الأمور، وخاضوا في البحث عن الجواهر والأعراض وأحكامها، ولكن لما لم يكن ذلك مقصود علمهم، لم يبلغ كلامهم فيه الغاية القصوى، فلم يحصل منه بالكلية ما يمحو ظلمات الحيرة في اختلاف الخلق؛ فلا أبعد أن يكون حصل ذلك لغيري، بل لست أشك في حصول ذلك لطائفة، ولكن حصولا مشوبا بالتقليد في بعض الأمور التي ليست من الأوليات، والغرض الآن حكاية حالي، لا إنكارا على من استشفى به؛ فإن أدوية الشفاء مختلفة باختلاف الداء، فكم من دواء ينتفع به مريض ويستضر به آخر. اهـ .