اعلم أن على الممدوح أن يكون شديد الاحتراز عن آفة الكبر والعجب ، وآفة الفتور ولا ينجو منه إلا بأن يعرف نفسه ويتأمل ما في خطر الخاتمة ودقائق الرياء وآفات الأعمال فإنه يعرف من نفسه ما لا يعرفه المادح ولو انكشف له جميع أسراره وما يجري على خواطره لكف المادح عن مدحه وعليه أن يظهر كراهة المدح بإذلال المادح .
قال صلى الله عليه وسلم : احثوا التراب في وجوه المادحين .
( بيان ما على الممدوح )
(اعلم) وفقك الله تعالى (أن على الممدوح أن يكون شديد الاحتراز عن آفة الكبر والعجب، وآفة الفتور) ؛ فإنها مهلكات (ولا ينجو) الممدوح، (عنه إلا بأن يعرف نفسه) بالعجز والقصور، (ويتأمل في خطر الخاتمة) ، فإن خطرها شديد; لأنها تضحك على الأعمال، (و) يتأمل في (دقائق الرياء) ، فإنها من خفي الشرك، (وآفات الأعمال) ، وأنه لا يقبل منها إلا ما كان بإخلاص، (وأنه يعرف من نفسه ما لا يعرف المادح) ، فيقول: أنا أعرف بنفسي منك. (ولو انكشف له جميع أسراره) ، وما في باطنه، (وما يجري على خواطره) مما لا يخلو منه الإنسان (لكف المادح عن مدحه) ، وامتنع من الثناء عليه، والتزكية، هذا حال العارفين بالله، وإليه الإشارة بقوله: من عرف نفسه فقد عرف ربه. (وعليه أن يظهر كراهية المدح بإذلال المادح) إن رأى في ذلك سلامة لحاله، أو عدم إكرامه بالبذل له في نظير ما مدحه، ولو بالسكوت عنده والإعراض عنه بوجهه، وإدخال كلام آخر أجنبي، كأنه لم يسمع ذلك المدح، وسواء كان ذلك المدح بمنثور من القول، أو بمنظوم، بأن مدحه بقصيدة، والبلاء في هذا أكثر؛ فإن الشاعر يجازف في كلامه كثيرا، فإن أكذبه أعذبه، فيجمع بين الكذب والمدح، (وإليه الإشارة بقوله صلى الله عليه وسلم: احثوا) أي: ارموا، (في وجوه المداحين) بصيغة المبالغة، إشارة إلى أن الكلام فيمن صدر منه المدح كثيرا حتى اتخذه صناعة وبضاعة يتأكل بها الناس، وجازف في الأوصاف وأكثر الكذب، (التراب) أي: فلا تعطوهم على المدح شيئا، فالحثو كناية عن الحرمان، والرد، والتخجيل، يقال: حثا في وجهه الرماد، إذا أخجله، أو المراد: قولوا لهم بأفواهكم: التراب. والعرب تستعمل ذلك لمن يكرهونه فيقولون: بعينه الإثاب. وهي بالكسر والمثلثة الساكنة: التراب، وهو كناية عن الذل والخيبة، أو المراد: أعطوهم ما طلبوا; لأن كل ما فوق التراب تراب، فشبه الإعطاء بالحثو، على سبيل الترشيح والمبالغة في التقليل والاستهانة، وبهذا جزم nindex.php?page=showalam&ids=13926البيضاوي ، وفيه نظر، وقيل: هو على ظاهره، فيرمى في وجوههم التراب، وجرى عليه ابن عربي ، قال: وصورته أن تأخذ كفا من تراب، وترمي به بين يديه، وتقول: ما عسى أن يكون من خلق من هذا؟ ومن أنا؟ وما قدري؟ توبخ بذلك نفسك ونفسه، وتعرف المادح قدرك وقدره، هكذا، فليحث التراب في وجوههم، قال: وقد كان بعض مشايخنا إذا رأى شخصا راكبا ذا شارة تعظمه الناس، وينظرون إليه، يقول له ولهم: تراب راكب على تراب. قلت: ويدل لذلك ما رواه nindex.php?page=showalam&ids=12455ابن أبي الدنيا عن عثمان بن أبي شيبة ، حدثنا الأشجعي ، عن nindex.php?page=showalam&ids=16004سفيان الثوري ، عن nindex.php?page=showalam&ids=13726الأعمش ، ومنصور عن إبراهيم عن همام بن الحارث قال: قال المقداد بن الأسود : nindex.php?page=hadith&LINKID=10030أمرنا رسول الله صلى الله عليه سلم إذا رأينا المداحين أن نحثو في وجوههم التراب ، وقد رواه nindex.php?page=showalam&ids=12251أحمد nindex.php?page=showalam&ids=17080ومسلم nindex.php?page=showalam&ids=11998وأبو داود من حديث المقداد بلفظ المصنف. ورواه nindex.php?page=showalam&ids=13948الترمذي من حديث nindex.php?page=showalam&ids=3أبي هريرة ، nindex.php?page=showalam&ids=13357وابن عدي nindex.php?page=showalam&ids=12181وأبو نعيم في الحلية من حديث nindex.php?page=showalam&ids=12ابن عمر ، وعند بعضهم "في أفواه"، بدل "وجوه"، وفي لفظ: "المادحين"، بدل "المداحين" .
(تنبيه) :
قال بعض الشافعية : وتحرم مجاوزة الحد في الإطراء في المدح ، إذا لم يكن حمله على المبالغة، وترد به الشهادة إن أكثر منه، وإن قصد إظهار الصنعة، قال العز بن عبد السلام في قواعده: ولا تكاد تجد مداحا إلا رذلا، ولا هجاء إلا ندلا .