اعلم أن الله تعالى لما خلق الحيوان معرضا للفساد ، والموتان بأسباب في داخل بدنه ، وأسباب خارجة عنه ، أنعم عليه بما يحميه عن الفساد ويدفع عنه الهلاك إلى أجل معلوم سماه في كتابه .
أما السبب الداخلي ، فهو أنه ركبه من الحرارة والرطوبة ، وجعل بين الحرارة والرطوبة عداوة ومضادة ، فلا تزال الحرارة تحلل الرطوبة ، وتجففها ، وتبخرها حتى تصير أجزاؤها بخارا يتصاعد منها ، فلو لم يصل بالرطوبة مدد من الغذاء يجبر ما انحل ، وتبخر من أجزائها لفسد الحيوان ، فخلق الله الغذاء الموافق لبدن الحيوان ، وخلق في الحيوان شهوة تبعثه على تناول الغذاء كالموكل به في جبر ما انكسر ، وسد ما انثلم ; ليكون ذلك حافظا له من الهلاك بهذا السبب .
(اعلم) -هداك الله- (أن الله تعالى لما خلق الحيوان معرضا للفساد، والموتان) بالضم هو الهلاك الذريع (بأسباب في داخل بدنه، وأسباب خارجة عنه، أنعم عليه بما يحميه عن الفساد) ، أي: يحفظه عنه، (ويدفع عنه الهلاك إلى أجل معلوم) مقدر محتوم (سماه في كتابه) ، وهو اللوح المحفوظ، (أما السبب الداخل، فهو أنه ركبه من الرطوبة، والحرارة) وجعلهما حافظين لكمالات البدن، وكل منهما يوصف بالغريزية، والحرارة الغريزية حتى السارية في سائر البدن التي بها النضج، والطبخ، وسائر الأفعال، وفي المعدة جزء منها به الهضم المعدي، ونقض الفضول، وفي الكبد جزء منها، وكذا في العروق، وفي القلب معظمها; إذ هو معدنها، ومستوقدها، ومادتها الدم الوارد من الكبد على البطن الأيمن من القلب فيتغير فيه إلى البخارية، ثم يستحيل إلى طبيعة الروح في البطن الأيسر منه، ويحصل له مزاج يستعد لقبول التولد، وكذا في سائر الأعضاء، ولأجل أنها آلة الطبيعة في أفعالها كالجذب، والهضم، وغير ذلك ينسب إليها كشحدائية البدن، ويقال: حرارة غريزية، وأفلاطون يسميها النار الإلهية، ولا يقال: برودة غريزية، ولأن مركبها الرطوبة دون اليبوسة، يقال: رطوبة غريزية، ولا يقال: يبوسة غريزية، ثم اختلفوا فيها، فقال جالينوس: إنها الحرارة الاستقهية النارية التي في البدن، وأما الجزء الناري إذا خالط سائر الاستقصاة أفادها طبخا، وقواما، والتئاما، ولم يبلغ في الكثرة إلى حد الإحراق، ولا من القلة إلى القصور عن الإنضاج، وإنها كما تدفع البارد الوارد على البدن المركب بالمضادة تدفع أيضا الحار الغريب الوارد المركب، وقال أرسطو وجمهور المتأخرين: إنها حرارة سماوية أفيضت على البدن مع فيضان النفس، ولكل منهما أدلة ذكرت في [ ص: 10 ] مواضعها من كتب الفن .
(وجعل بين الحرارة والرطوبة عداوة ومضادة، فلا تزال الحرارة تحلل الرطوبة، وتجففها، وتبخرها حتى تصير أجزاؤها بخارا يتصاعد منها، فلو لم يتصل بالرطوبة مدد من الغذاء) الموافق (يجبر ما انحل، وتبخر من أجزائها لفسد الحيوان، فخلق الله الغذاء الموافق لبدن الحيوان، وخلق في الحيوان شهوة تبعثه) ، أي: تحمله (على تناول الغذاء) ، ولولا تلك الشهوة لما أقدم على تناول الغذاء، فهذه فائدة الشهوة، فهي (كالموكل به في جبر ما انكسر، وسد ما انثلم; ليكون ذلك حافظا له من الهلاك بهذا السبب) ، ثم إن الرطوبة الغريزية إذا وصل إليها مدد الغذاء تصير وافية لحفظ الحرارة الغريزية، فتارة مع حفظها بالزيادة في النمو، وكما في سن الحداثة، وتارة تكون وافية لحفظها فقط، كما في سن الشباب، وتارة تكون ناقصة من حفظها نقصانا لا يعتد به غير محسوس، كما في سن الكهولة، وتارة نقصانا ظاهرا، وهو إلى آخر العمر .