أما المنافسة ، فسببها حب ما فيه المنافسة فإن كان ذلك أمرا دينيا ، فسببه حب الله تعالى ، وحب طاعته وإن كان دنيويا ، فسببه حب مباحات الدنيا ، والتنعم فيها وإنما نظرنا الآن في الحسد المذموم ، ومداخله كثيرة جدا ، ولكن يحصر جملتها سبعة أبواب العداوة ، والكبر ، والتعجب ، والخوف من فوت المقاصد المحبوبة ، وحب الرياسة ، وخبث النفس ، وبخلها فإنه مما يكره النعمة على غيره ; إما لأنه عدوه فلا يريد له الخير وهذا لا يختص بالأمثال بل يحسد الخسيس الملك بمعنى أنه يحب زوال نعمته لكونه مبغضا له بسبب إساءته إليه أو إلى من يحبه وإما أن يكون من حيث يعلم أنه يستكبر بالنعمة عليه ، وهو لا يطيق احتمال كبره ، وتفاخره لعزة نفسه ، وهو المراد بالتعزز وإما أن يكون في طبعه أن يتكبر على المحسود ، ويمتنع ذلك عليه لنعمته ، وهو المراد بالتكبر وإما أن تكون النعمة عظيمة ، والمنصب عظيما فيتعجب من فوز مثله بمثل تلك النعمة وهو المراد بالتعجب ، وإما أن يخاف من فوات مقاصده بسبب نعمته بأن يتوصل بها إلى مزاحمته في أغراضه وإما أن يكون يحب الرياسة التي تنبني على الاختصاص بنعمة لا يساوي فيها وإما أن لا يكون بسبب من هذه الأسباب ، بل لخبث النفس ، وشحها بالخير لعباد الله تعالى ولا بد من شرح هذه الأسباب .
السبب الأول : العداوة والبغضاء ، وهذا أشد أسباب الحسد ، فإن من آذاه شخص بسبب من الأسباب ، وخالفه في غرض بوجه من الوجوه أبغضه قلبه ، وغضب عليه ، ورسخ في نفسه الحقد والحقد يقتضي التشفي ، والانتقام ، فإن عجز المبغض عن أن يتشفى بنفسه أحب أن يتشفى منه الزمان وربما يحيل ذلك على كرامة نفسه عند الله تعالى فمهما أصابت عدوه بلية فرح بها وظنها مكافأة له من جهة الله على بغضه وأنها ، لأجله ومهما أصابته نعمة ساءه ذلك ; لأنه ضد مراده ، وربما يخطر له أنه لا منزلة له عند الله ; حيث لم ينتقم له من عدوه الذي آذاه ، بل أنعم عليه وبالجملة ، فالحسد يلزم البغض ، والعداوة ، ولا يفارقهما ، وإنما غاية التقي أن لا يبغي وأن يكره ذلك من نفسه ، فأما أن يبغض إنسانا ، ثم يستوي عنده مسرته ومساءته فهذا غير ممكن وهذا مما وصف الله تعالى الكفار به ; أعني الحسد بالعداوة ; إذ قال الله تعالى وإذا لقوكم قالوا آمنا وإذا خلوا عضوا عليكم الأنامل من الغيظ قل موتوا بغيظكم إن الله عليم بذات الصدور إن تمسسكم حسنة تسؤهم الآية وكذلك قال ودوا ما عنتم قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفي صدورهم أكبر ، والحسد بسبب البغض ربما يفضي إلى التنازع والتقاتل واستغراق العمر في إزالة النعمة بالحيل والسعاية ، وهتك الستر ، وما يجري مجراه .
(أما المنافسة، فسببها حب) ما فيه (المنافسة) مما تنتهي إليه الرغبات (فإن كان ذلك مرادا دينيا، فسببه حب الله تعالى، وحب طاعته) ، فهما اللذان ألجآه إلى التنافس فيه، (وإن كان دنيويا، فسببه حب مباحات الدنيا، والتنعم بها) ، والتمتع بعلائقها، وهذا ظاهر في كونه مباحا (وإنما نظرنا الآن في الحسد المذموم، ومداخله كثيرة جدا، ولكن يحصر جملتها سبعة أبواب) ، وما عداها متفرع عنها، وآيل إليها، وهي (العداوة، والتعزز، والكبر، والتعجب، والخوف من فوت المقاصد المحبوبة، وحب الرياسة، وخبث النفس، وبخلها) ، فهذا من أصول الأسباب، ثم ذكر وجه الحصر في هذه السبعة، فقال: (فإنه إنما يكره النعمة على غيره; إما لأنه عدوه) إما بسبب ديني أو دنيوي، (فلا يريد له الخير) مطلقا، (وهذا) هو السبب الأول، وقد قالوا: الذي له عدو ما له هدو، وذلك (لا يختص بالأمثال) ، والأقران (بل) قد (يحسد الخسيس) ، أي: الدنيء (الملك) ، أو الأمير، (بمعنى أنه يحب زوال نعمته عنه لكونه مبغضا له بسبب إساءته إليه أو) إساءته (إلى من [ ص: 64 ] يحبه) ، فهو يبغضه لأجل ذلك، ويحسده بالمعنى المذكور، (وإما أن يكون من حيث يعلم أنه يستكبر بالنعمة عليه، وهو لا يطيق احتمال كبره، وتفاخره لعزة نفسه، وهو المراد بالتعزز) ، وهذا هو السبب الثاني (وإما أن يكون في طبعه أن يتكبر على المحسود، ويمتنع ذلك عليه بنعمته، وهو المراد بالتكبر) ، وهذا هو السبب الثالث (وإما أن تكون النعمة عظيمة، والمنصب كبيرا فيتعجب من فوز مثله بمثل تلك النعمة، وذلك المنصب هو التعجب) ، وهذا هو السبب الرابع (وإما أن يخاف من فوات مقاصده بسبب نعمته بأن يتوصل بها إلى مزاحمته في أغراضه) ، وهذا هو السبب الخامس (وإما أن يكون يحب الرياسة التي تنبني على الاختصاص بنعمة لا يساوي فيها) ، وهذا هو السبب السادس (وإما أن لا يكون لسبب من هذه الأسباب، بل لخبث النفس، وشحها بالخير لعباد الله) ، وهذا هو السبب السابع .
(ولا بد من شرح هذه الأسباب) ، وتفصيلها (السبب الأول: العداوة والبغضاء، وهذا أشد الحسد، فإن من آذاه إنسان بسبب من الأسباب، وخالفه في غرضه بوجه من الوجوه أبغضه قلبه، وغضب عليه، ورسخ في نفسه الحقد) المستكن في ضميره (والحقد يقتضي التشفي، والانتقام، فإن عجز المبغض عن أن يتشفى بنفسه أحب أن يتشفى منه الزمان) بإصابة نكبة من نكباته، (وربما يحيل ذلك على كرامة نفسه عند الله تعالى) ، أي: إنه كريم عند الله، وما صار له من الانتقام بسبب كرامته عليه (فمهما أصابت عدوه بلية فرح) ، واستبشر (وظنه مكافأة من جهة الله تعالى له على بغضه، وأنه لأجله) ، وقد يكتم ذلك في نفسه، فلا يظهر ذلك لأحد، وقد لا يكتم، بل يتبجح به عند الناس، ويخبرهم بذلك (ومهما أصابته نعمة) أو عرض له سرور (ساءه ذلك; لأنه ضد مراده، وربما يظهر له أنه لا منزلة له عند الله; حيث لم ينتقم له من عدوه الذي آذاه، بل أنعم عليه) ، وهذه الحالة فالناس واقعون فيها (وبالجملة، فالحسد يلزم البغض، والعداوة، ولا يفارقهما، وإنما غاية التقي أن لا يبغي) بالقول، أو الفعل (وأن يكره ذلك من نفسه، فأما أن يبغض إنسانا، ثم تستوي عنده مسرته ومساءته) على حد سواء (فهذا غير ممكن) ; إذ لا بد من ترجيح أحدهما على الآخر، (وهذا ما وصف الله الكفار; أعني الحسد بالعداوة; إذ قال) تعالى في حقهم: ( وإذا لقوكم قالوا: آمنا، وإذا خلوا عضوا عليكم الأنامل من الغيظ ) ، وكل من يغتاظ يعض على أنامله ( قل موتوا بغيظكم إن الله عليم بذات الصدور ، إن تمسسكم حسنة الآية) ، وقد تقدم تمامها، (وكذلك قال) تعالى في حقهم: ( ودوا ما عنتم قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفي صدورهم الآية، والحسد بسبب البغض ربما يفضي إلى التنازع) ، أي: التخاصم (والتقاتل) بالسلاح (واستغراق العمر في إزالة النعمة بالحيل) ، والخداع (وبالسعاية، وهتك الستر، وما يجري مجراه) .