اعلم أن معرفة ذم الدنيا لا تكفيك ما لم تعرف الدنيا المذمومة ما هي وما الذي ينبغي أن يجتنب منها وما الذي لا يجتنب فلا بد وأن نبين الدنيا المذمومة ، المأمور باجتنابها ; لكونها عدوة قاطعة لطريق الله ما هي ? فنقول دنياك وآخرتك عبارة عن حالتين من أحوال قلبك ; فالقريب الداني منها يسمى دنيا ، وهو كل ما قبل الموت ، والمتراخي المتأخر يسمى آخرة ، وهو ما بعد الموت فكل ما لك فيه حظ ، ونصيب وغرض ، وشهوة ، ولذة عاجل الحال قبل الوفاة ، فهي الدنيا في حقك ، إلا أن جميع ما لك إليه ميل ، وفيه نصيب وحظ ، فليس بمذموم ، بل هو ثلاثة أقسام :
القسم الأول ما يصحبك في الآخرة وتبقى معك ثمرته بعد الموت وهو شيئان : العلم ، والعمل فقط ، وأعني بالعلم العلم بالله ، وصفاته ، وأفعاله وملائكته ، وكتبه ، ورسله وملكوت أرضه ، وسمائه والعلم بشريعة نبيه وأعني بالعمل العبادة الخالصة لوجه الله تعالى وقد يأنس العالم بالعلم حتى يصير ذلك ألذ الأشياء عنده ، فيهجر النوم ، والمطعم والمنكح في لذته لأنه أشهى عنده من جميع ذلك ، فقد صار حظا عاجلا في الدنيا .
ولكنا إذا ذكرنا الدنيا المذمومة لم نعد هذا من الدنيا أصلا ، بل قلنا : إنه من الآخرة وكذلك العابد قد يأنس بعبادته فيستلذها بحيث لو منع عنها لكان ذلك أعظم العقوبات عليه حتى قال بعضهم : ما أخاف من الموت إلا من حيث يحول بيني وبين قيام الليل وكان آخر يقول : اللهم ارزقني قوة الصلاة ، والركوع ، والسجود في القبر فهذا قد صارت الصلاة عنده من حظوظه العاجلة ، وكل حظ عاجل فاسم الدنيا ينطلق عليه من حيث الاشتقاق من الدنو ولكنا لسنا نعني بالدنيا المذمومة ذلك وقد قال صلى الله عليه وسلم : nindex.php?page=hadith&LINKID=670139حبب إلي من دنياكم ثلاث النساء والطيب وقرة عيني في الصلاة .
فجعل الصلاة من جملة ملاذ الدنيا وكذلك ; كل ما يدخل في الحس والمشاهدة فهو من عالم الشهادة ، وهو من الدنيا ، والتلذذ بتحريك الجوارح بالركوع والسجود إنما يكون في الدنيا ; فلذلك أضافها إلى الدنيا إلا أنا لسنا في هذا الكتاب نتعرض إلا للدنيا المذمومة ، فنقول : هذه ليست من الدنيا .
(اعلم) أرشدك الله تعالى (أن معرفة ذم الدنيا لا يكفيك ما لم تعرف الدنيا المذمومة ما هي) ، أي: ما حقيقتها؟ [ ص: 117 ] وماهيتها في حقك، (وما الذي ينبغي أن يجتنب منها) ، ويحترز عنها (وما الذي لا يجتنب) منها؟ (فلا بد أن نبين الدنيا المذمومة، المأمور باجتنابها; لكونها عدوة قاطعة لطريق الله ما هي؟ فنقول) وبالله التوفيق: (دنياك وآخرتك عبارة عن حالتين من أحوال قلبك; فالقريب الداني منهما يسمى الدنيا، وهو كل ما قبل الموت، والمتراخي المتأخر يسمى آخرة، وهو ما بعد الموت) ، وهذا يؤيد قول من قال: إن الدنيا فعلى من الدنو، كما سيأتي قريبا للمصنف .
(وكل ما لك فيه حظ، وغرض، ونصيب، وشهوة، ولذة في عاجل الحال قبل الوفاة، فهي الدنيا في حقك، إلا أن جميع ما لك إليه ميل، وفيه نصيب وحظ، فليس بمذموم، بل هو ثلاثة أقسام: القسم الأول ما يصحبك في الآخرة) بعد سفرك من الدنيا (وتبقى معك ثمرته بعد الموت) ، ولا ينقطع (وهو شيئان: العلم، والعمل فقط، وأعني بالعلم العلم بالله، وصفاته، وأفعاله) يشير إلى مراتب التوحيد الثلاثة بأن الله واحد في ذاته، واحد في صفاته، واحد في أفعاله .
ثم ما يتبع ذلك، وإليه أشار بقوله: (وملائكته، وكتبه، ورسله) ، وبما يليق في حق كل منها حسبما مر في قواعد العقائد .
(وملكوت أرضه، وسمائه) بما فيها من العجائب الدالة على كمال قدرته (والعلم بشريعة نبيه) الذي هو معدود في أمته، وكل ما يوصل إلى تحصيل هذه المعلومات، فهو داخل فيها .
(وأعني بالعمل العبادة الخالصة لوجه الله تعالى) عن الشك، والشرك الخفي بمقتضى عمله بالشريعة التي أمر باتباعها، وهما من اللذات العقلية، وهي أشرف اللذات، وأقلها وجودا، فشرفها أنها لا تمل، ولا تتبدل، ولكن لا يعرفها إلا من تخصص بها; كالحكمة لا يستلذها إلا الحكيم .
(وقد يأنس العالم بالعلم حتى يصير ذلك ألذ الأشياء عنده، فيهجر النوم والمنكح، والمطعم في لذته) ، فلا يألف فراش النوم، ولا يشتغل بالأكل، ويدع زوجته كأنها أرملة (لأنه) ، أي: العلم بما ذكر (أشهى عنده من جميع ذلك، فقد صار حظا عاجلا في الدنيا، ولكنا إذا ذكرنا الدنيا المذمومة لم نعد هذا من الدنيا أصلا، بل قلنا: إنه من الآخرة) كيف؟ وغالب من مضى من صالحي السلف هكذا; لأن شأنهم حيث شغلتهم معرفة الله تعالى عن كثير من اللذات البدنية، وحتى عن كثير من اللذات المتوسطة بينها وبين العقلية .
(وكذلك العابد قد يأنس بعبادته فيستلذها بحيث لو منع عنها) ولو ساعة من الزمان (لكان ذلك أعظم العقوبات عليه) ، ويرى نفسه متلهفا نادما، كأنه كان في يده شيء ففاته (حتى قال بعضهم: ما أخاف الموت إلا من حيث يحول بيني وبين قيام الليل) ، فهذا قد حذر الموت لأجل حيلولته بينه وبين التهجد .
(وكان آخر يقول: اللهم ارزقني قوة الصلاة، والركوع، والسجود في القبر) ، ومنهم من استجيب له ذلك، فكشف عن قبور بعض منهم فرؤي مصليا، ومنهم من رؤي في قبره قارئا للقرآن .
(فهذا قد صارت الصلاة) ، والقراءة (عنده من حظوظه العاجلة، وكل حظ عاجل فاسم الدنيا ينطلق عليه من حيث الاشتقاق من الدنو) الذي هو القرب بالذات، أو الحكم، فهي إذا فعلى من الدنو .
رواه nindex.php?page=showalam&ids=15397النسائي، nindex.php?page=showalam&ids=14070والحاكم من حديث nindex.php?page=showalam&ids=9أنس دون قوله: ثلاث، وتقدم في النكاح، وفي بعض ألفاظه: nindex.php?page=hadith&LINKID=885455وجعلت قرة عيني في الصلاة، وفي بعضها: وجعل، وتقدم تفصيل ذلك .
ومنهم من قال: إن لفظ ثلاث لم يقع في شيء من طرقه، بل زيادته محيلة للمعنى، ولكن شرحه الإمام nindex.php?page=showalam&ids=13428أبو بكر بن فورك في رسالة، ووجهه بما حاصله في كلام المصنف حيث قال: (فجعل الصلاة من جملة ملاذ الدنيا; وذلك لأن كل ما يدخل في الحس والمشاهد فهو من عالم الشهادة، وهو من الدنيا، والتلذذ بتحريك الجوارح بالركوع [ ص: 118 ] والسجود إنما يكون في الدنيا; فلذلك أضافها إلى الدنيا) ، فعلى هذا لفظ الثلاث - إن ثبت - لا يكون محيلا للمعنى، ولكن لما لم يكن في الصلاة تقاضي شهوة نفسانية - كما في النساء، والطيب - عبر فيها بعبارة تخالف السياق الأول، فقال: nindex.php?page=hadith&LINKID=885455وجعلت قرة عيني في الصلاة كما في رواية .
وعند nindex.php?page=showalam&ids=12251أحمد في الزهد زيادة على هذا الحديث، وهي: أصبر عن الطعام والشراب، ولا أصبر عنهن، وروى الديلمي من حديث nindex.php?page=showalam&ids=9أنس: الجائع يشبع، والظمآن يروى، وأنا لا أشبع من حب الصلاة والنساء (إلا أنا في هذا الكتاب لا نتعرض إلا للدنيا المذمومة، فنقول: هذه ليست من الدنيا) .