وهو الكتاب السابع من ربع المهلكات من كتاب إحياء علوم الدين .
بسم الله الرحمن الرحيم .
الحمد لله مستوجب الحمد برزقه المبسوط وكاشف الضر بعد القنوط الذي خلق الخلق ووسع الرزق وأفاض على العالمين أصناف الأموال وابتلاهم فيها بتقلب الأحوال ورددهم فيها بين العسر ، واليسر والغنى والفقر ، والطمع واليأس ، والثروة والإفلاس والعجز ، والاستطاعة والحرص والقناعة ، والبخل والجود ، والفرح بالموجود ، والأسف على المفقود ، والإيثار ، والإنفاق ، والتوسع ، والإملاق والتبذير والتقتير والرضا بالقليل ، واستحقار الكثير كل ذلك ليبلوهم أيهم أحسن عملا وينظر أيهم آثر الدنيا على الآخرة بدلا وابتغى عن الآخرة عدولا ، وحولا واتخذ الدنيا ذخيرة وخولا والصلاة على محمد الذي نسخ بملته مللا وطوى بشريعته أديانا ، ونحلا وعلى آله وأصحابه الذين سلكوا سبيل ربهم ذللا وسلم تسليما كثيرا .
أما بعد ، فإن فتن الدنيا كثيرة الشعب ، والأطراف واسعة الأرجاء ، والأكناف ولكن الأموال أعظم فتنها ، وأطم محنها ، وأعظم فتنة فيها أنه لا غنى لأحد عنها ثم إذا وجدت ، فلا سلامة منها فإن فقد المال حصل منه الفقر الذي يكاد أن يكون كفرا وإن وجد حصل منه الطغيان الذي لا تكون عاقبة أمره إلا خسرا وبالجملة ، فهي لا تخلو من الفوائد والآفات وفوائدها من المنجيات وآفاتها من المهلكات ، وتمييز خيرها عن شرها من المعوصات التي لا يقوى عليها إلا ذوو البصائر في الدين من العلماء الراسخين دون المترسمين المغترين وشرح ذلك مهم على الانفراد فإن ما ذكرناه في كتاب ذم الدنيا لم يكن نظرا في المال خاصة ، بل في الدنيا عامة إذ الدنيا ، تتناول كل حظ عاجل والمال بعض أجزاء الدنيا ، والجاه بعضها ، واتباع شهوة البطن والفرج بعضها ، وتشفي الغيظ بحكم الغضب والحسد بعضها ، والكبر وطلب العلو بعضها ، ولها أبعاض كثيرة ويجمعها كل ما كان للإنسان فيه حظ عاجل ونظرنا الآن في هذا الكتاب في المال وحده ; إذ فيه آفات وغوائل وللإنسان من فقده صفة الفقر ، ومن وجوده وصف الغنى ، وهما حالتان يحصل بهما الاختبار والامتحان ، ثم للفاقد حالتان : القناعة والحرص ، وإحداهما مذمومة والأخرى محمودة وللحريص حالتان : طمع فيما في أيدي الناس وتشمر للحرف والصناعات مع اليأس عن الخلق والطمع شر الحالتين ، وللواجد حالتان : إمساك بحكم البخل والشح ، وإنفاق وإحداهما مذمومة والأخرى محمودة وللمنفق حالتان : تبذير واقتصاد ، والمحمود هو الاقتصاد ، وهذه أمور متشابهة ، وكشف الغطاء عن الغموض فيها مهم ، ونحن نشرح ذلك في أربعة عشر فصلا إن شاء الله تعالى ، وهو بيان ذم المال ، ثم مدحه ، ثم تفصيل فوائد المال ، وآفاته ، ثم ذم الحرص والطمع ، ثم علاج الحرص والطمع ، ثم فضيلة السخاء ، ثم حكايات الأسخياء ، ثم ذم البخل ، ثم حكايات البخلاء ، ثم الإيثار وفضله ، ثم حد السخاء والبخل ، ثم علاج البخل ، ثم مجموع الوظائف في المال ، ثم ذم الغنى ومدح الفقر إن شاء الله تعالى .
(بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم)
الحمد لله الذي إليه مصائر الخلق، وعواقب الأمر* نحمده على عظيم إحسانه، ونير برهانه* ونوامي فضله وامتنانه* حمدا يكون لحقه قضاء* ولشكره أداء* وإلى ثوابه مقربا* ولحسن مزيده موجبا، ونستعين به استعانة راج لفضله* مؤمل لنفعه* واثق بدفعه* معترف له بالطول* مذعن له بالعمل والقول* ونؤمن به إيمان من رجاه موقنا* وناب إليه مؤمنا* وخضع له مذعنا* وأخلص له موحدا، وعظمه ممجدا* ولاذ به راضيا مجتهدا* ونشهد أن سيدنا ومولانا محمدا عبده ورسوله* وصفيه، وخليله المجتبى من خلائقه* والفتاح لشرح حقائقه* والمختص بعقائل كراماته، والمصطفى لمكارم رسالاته الموضحة به أشراط الهدى* والمجلو به غريب الردى* صلى الله عليه وعلى آله الأئمة الأطهار* وأصحابه الفضلاء الأخيار* وأتباعهم المقتفين للآثار* وسلم تسليما كثيرا* أما بعدفهذا شرح (كتاب ذم البخل وحب المال) ، وهو السابع من الربع الثالث من كتب الإحياء للإمام الهمام حجة الإسلام nindex.php?page=showalam&ids=14847أبي حامد محمد بن محمد بن محمد الغزالي* سقى الله ثراه صوب الغمامة المنحلة العزالى* يتضمن حل معاقده* وضبط أوابده* وضم ما انتثر من فوائده* وإبانة ما خفي من إشاراته* وتوضيح ما اعتاص من مشكلات عباراته* عازيا كل قول إلى قائله، وكل خبر إلى راويه* وكل أثر إلى ناقله، مرتقيا ذروة متعاليه، متكفلا ضبط ألفاظه ومعانيه* وبالله أعتصم* وأسأله العصمة فيما يصم* مستعيذا بالله من شر الشيطان الرجيم، ومن يعتصم بالله فقد هدي إلى صراط مستقيم .
قال - رحمه الله تعالى -: (بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله مستوجب الحمد) ، أي: استحقه (برزقه المبسوط) ، أي: المنثور على عباده (وكاشف الضر) بالضم - ويفتح - ما يؤلم الظاهر من الجسم، وهو ما يتصل بمحبوسه في مقابلة الأذى، وهو إيلام النفس، وما يتصل بأحوالها، وتشعر الضمة فيه أنه عن علو وقهر، والفتحة بأن يكون من مماثل، ونحوه (بعد القنوط) ، أي: بعد الإياس من كشفه، وهو رفعه ودفعه (الذي خلق الخلق) ، أي:
[ ص: 143 ] المخلوقات بأسرها (ووسع الرزق) الحسي، والمعنوي (وأفاض على العالمين) بمقتضى جودها المطلق (أصناف الأموال) ، وأنواعها من الصامت والناطق، (وابتلاهم) ، أي: اختبرهم (فيها) ، أي: في تلك الأموال التي أعطوها (بتقليب الأحوال) ، أي: تغييرها من حال إلى حال (ورددهم فيها) ، أي: جعلهم مرددين فيها (بين) حالتي (العسر، واليسر) ، أي: الضيق، والفرج (والغنى والفقر، والطمع واليأس، والثروة) ، أي: الكثرة (والإفلاس) ، أي: الفقر، والعدم (والعجز، والاستطاعة) ، أي: التمكن والقدرة (والحرص والقناعة، والبخل والجود، والفرح بالموجود، والأسف) محركة، أي: الحزن (على المفقود، والإيثار، والإنفاق، والتوسع، والإملاق) ، أي: الافتقار، والاحتياج (والتبذير) ، أي: تفريق المال على وجه الإسراف (والتقتير) ، أي: تقليل النفقة (والرضا بالقليل، واستحقار الكثير) بأن لا يكون له مقام كبير عنده .
(كل ذلك لنبلوهم) ، أي: نختبرهم (أيهم أحسن عملا) ، أي: أزهدهم في الدنيا، كما قاله الفضيل بن عياض (وينظر أيهم آثر الدنيا عن الآخرة بدلا) ، أي: اختارها بدلا عنها (وابتغى عن الآخرة عدولا، وحولا) بكسر ففتح اسم بمعنى التحول، والانقلاب، (واتخذ الدنيا ذخيرة) يعتدها (وخولا) محركة، وهو الحشم والخدم .
(والصلاة على) السيد الكامل (محمد الذي نسخ بملته) الحنيفية (مللا) ، أي: أزال أحكامها، وعاداتها (وطوى بشريعته أديانا، ونحلا) بكسر ففتح; جمع نحلة - بالكسر - هي الدعوة (وعلى آله وأصحابه الذين سلكوا سبيل ربهم ذللا) بضمتين جمع ذليل، أي: أذلاء منقادين (وسلم) تسليما (كثيرا .
أما بعد، فإن فتن الدنيا كثيرة الشعب، والأطراف) ، والشعبة بالضم من الشجرة الغصن المتفرع منها، والجمع شعب كغرفة، وغرف (واسعة الأرجاء، والأكناف) والأرجاء: النواحي، والأكناف: الجوانب والأكناف، (ولكن الأموال أعظم فتنها، وأطم) ، أي: أعم (محنها، وأعظم فتنة فيها) ، أي: في الأموال (أنه لا غنى عنها) ، ولله در nindex.php?page=showalam&ids=15155المتنبي حيث قال:
ومن نكد الدنيا على الحر أن يرى عدوا له ما من صداقته بد
(وإن وجد حصل منه الطغيان الذي لا يكون عاقبة أمره إلا خسرا) ، أي: انتقاصا في رأس ماله (وبالجملة، فهي لا تخلو من الفوائد والآفات) باختلاف الحالات، وفوائدها من المنجيات (وآفاتها من المهلكات، وتمييز خيرها من شرها من المعوصات) ، أي: من المشكلات يقال: أعوص الأمر إذا أشكل فهمه (التي لا يقوى عليها إلا ذوو البصائر في الدين) الذين كشف الله عن بصيرتهم، وأنار بنور الهداية سريرتهم، أولئك (من العلماء الراسخين) ، أي: المتمكنين في معارفهم (دون المترسمين) الذين يعرفون من العلوم رسومها (المغترين) لما هم فيه .
(وشرح ذلك مهم على الانفراد) ، أي: الاستقلال، فإن ما ذكرناه أولا (في كتاب ذم الدنيا لم يكن نظرا في المال خاصة، بل في الدنيا عامة، والدنيا تتناول كل حظ عاجل) من حظوظه (والمال بعض أجزاء الدنيا، والجاه بعضها، واتباع شهوة البطن والفرج بعضها، وتشفي الغيظ بحكم الغضب والحسد بعضها، والكبر وطلب العلو بعضها، ولها أبعاض كثيرة) غير ما ذكر (ويجمعها كل ما للإنسان فيه حظ عاجل) كما سبق بيانه .
(ونظرنا الآن في هذا الكتاب في المال وحده; إذ فيه آفات وغوائل) ، أي: مهالك (وللإنسان [ ص: 144 ] من فقد صفة الفقر، ومن وجود صفة الغنى، وهما حالتان يحصل بهما الاختبار والامتحان، ثم للفاقد حالتان: القناعة والحرص، وإحداهما مذمومة) وهي الحرص، (والأخرى محمودة) وهي القناعة، ولا يكون الحرص إلا إذا تناهت الشهوة - عقلية كانت أو بدنية -، وقد يكون الحرص محمودا، لكن لا في أمور الدنيا. (وللحريص حالتان: طمع فيما في أيدي الناس) مما يملكونه (أو تشمر للحرف والصناعات مع اليأس من الخلق والطمع شر الحالتين، وللواجد) ، وهو في مقابلة الفاقد (حالتان: إمساك بحكم البخل والشح، وإنفاق) ، أي: بذل (وإحداهما مذمومة) ، وهي الإمساك (والأخرى محمودة) ، وهي الإنفاق (وللمنفق حالتان: تبذير) في غير محله (واقتصاد، والمحمود) منهما (هو الاقتصاد، وهذه أمور متشابهة، وكشف الغطاء عن الغموض فيها مهم، ونحن نشرح ذلك في أربعة عشر فصلا - إن شاء الله تعالى -، وهو بيان ذم المال، ثم مدحه، ثم تفصيل فوائد المال، وآفاته، ثم ذم الحرص والطمع، ثم علاج الحرص والطمع، ثم فضيلة السخاء، ثم حكايات الأسخياء، ثم ذم البخل، ثم حكايات البخلاء، ثم الإيثار وفضله، ثم حد السخاء والبخل، ثم علاج البخلاء، ثم مجموع الوظائف في المال، ثم ذم الغنى ومدح الفقر) ، فهذه أربعة عشر مقصدا، جعل كل مقصد في فصل مستقل على هذا النسق والترتيب .