وهذه السعادة لا تنال إلا بثلاث وسائل في الدنيا ، وهي الفضائل النفسية كالعلم ، وحسن الخلق ، والفضائل البدنية ; كالصحة ، والسلامة ، والفضائل الخارجة عن البدن ; كالمال ، وسائر الأسباب وأعلاها النفسية ، ثم البدنية ، ثم الخارجة .
فالخارجة أخسها ، والمال من جملة الخارجات وأدناها الدراهم والدنانير ، فإنهما خادمان ولا خادم لهما ومرادان لغيرهما .
ولا يرادان لذاتهما إذ النفس هي الجوهر النفيس المطلوب سعادتها وأنها ، تخدم العلم ، والمعرفة ، ومكارم الأخلاق لتحصيلها صفة في ذاتها ، والبدن يخدم النفس بواسطة الحواس ، والأعضاء ، والمطاعم والملابس تخدم البدن وقد سبق أن المقصود من المطاعم إبقاء البدن ، ومن المناكح إبقاء النسل ، ومن البدن تكميل النفس ، وتزكيتها ، وتزيينها بالعلم والخلق .
ومن عرف هذا الترتيب ، فقد عرف قدر المال ، ووجه شرفه ، وأنه من حيث هو ضرورة المطاعم والملابس التي هي ضرورة بقاء البدن الذي هو ضرورة كمال النفس الذي هو خير ومن عرف فائدة الشيء ، وغايته ومقصده واستعمله لتلك الغاية ، ملتفتا إليها غير ناس لها ، فقد أحسن وانتفع وكان ما حصل له الغرض محمودا في حقه ، فإذا المال آلة ووسيلة إلى مقصود صحيح ، ويصلح أن يتخذ آلة ووسيلة إلى مقاصد فاسدة ، وهي المقاصد الصادة عن سعادة الآخرة وتسد سبيل العلم والعمل ، فهو إذن محمود مذموم ; محمود بالإضافة إلى المقصد المحمود ، ومذموم بالإضافة إلى المقصد المذموم فمن أخذ من الدنيا أكثر مما يكفيه فقد أخذ حتفه وهو لا يشعر كما ورد به الخبر .
(وهذه السعادة لا تنال إلا بثلاث وسائل في الدنيا، وهي الفضائل النفسية كالعلم، وحسن الخلق، والفضائل البدنية; كالصحة، والسلامة، والفضائل الخارجة عن البدن; كالمال، وسائر الأسباب) يعني أن سعادة الآخرة منوطة بتحصيل هذه الفضائل الثلاثة، والسعي فيها، واستعمالها كما قال تعالى: ومن أراد الآخرة، وسعى لها سعيها الآية، وأصول الفضائل النفسية أربعة: العقل وكماله العلم والعفة وكمالها، الورع والشجاعة وكمالها، المجاهدة والعدالة وكمالها، الإنصاف، وهي المعبر عنها بالدين، ويكمل ذلك بالفضائل البدنية، وهي أربعة أشياء: الصحة، والقوة، والجمال، وطول العمر، وبالفضائل اللطيفة بالإنسان، وهي الخارجة عن البدن، وهي أربعة أشياء: المال، والأهل، والعز، وكرم العشيرة، ولا سبيل إلى تحصيل ذلك إلا بتوفيق الله - عز وجل -، وذلك بأربعة أشياء: هدايته، ورشده، وتسديده، وتأييده، فجميع ذلك خمسة أنواع هي عشرون من ضرب خمسة في أربعة، ليس للإنسان مدخل في اكتسابها إلا فيما هو نفسي فقط، والسعادة الحقيقية هي الخيرات الأخروية، وما عداها فتسميته بذلك إما لكونه معاونا في بلوغ ذلك، أو نافعا فيه، فكل ما أعان على خير سعادة .
والأشياء التي هي معينة، ونافعة في بلوغ السعادة الأخروية متفاوتة الأحوال، فمنها ما هو نافع في جميع الأحوال على وجه، ومنها ما هو نافع في حال دون حال، وعلى وجه دون وجه، وربما يكون ضره أكبر من نفعه، فحق الإنسان أن يعرفها بحقائقها حتى لا يقع عليه الخطأ في اختياره الوضيع على الرفيع، وتقديمه الخسيس على النفيس .
*إن قيل ما الخير، والسعادة، والفضيلة، والنافع؟ وهل بين هذه الأربعة فرق؟ قيل: أما الخير المطلق فهو المختار من أجل نفسه، والمختار غيره لأجله، وهو الذي تشوفه كل عاقل .
وأما السعادة المطلقة فحسن الحياة في الآخرة، وهي الأربع التي تقدم ذكرها، وقد يقال لما يتوصل به إلى هذه السعادات الأربعة: سعادة، وهي الستة عشر المتقدمة، ويضادها الشقاوة .
وأما الفضيلة، فاسم لما يحصل به الإنسان مزية على الغير، وهو اسم لما يتوصل به إلى السعادة، ويضادها الرذيلة .
وأما النافع، فهو ما يعين على بلوغ الفضيلة والسعادة والخير، وهو ضربان: ضروري، وهو ما لا يكون الوصول إلى المطلوب إلا به; كالعلم والعمل الصالح للمكلفين في البلوغ إلى النعيم الدائم، وغير ضروري، وهو الذي قد يسد غيره مسده كالسكنجبين في كونه نافعا في قمع الصفراء، فإن ذلك قد يسد غيره [ ص: 151 ] مسده، وكل نافع فقد يسمى فضيلة وسعادة وخيرا؛ لكونه مبلغا إلى ذلك، وقول المصنف: وهذه السعادة لا تنال.. .
إلخ، يشير به إلى أن بعض الفضائل محتاج إلى بعض إما حاجة ضرورية بحيث لو لم يوجد ذلك لم يصح وجود الآخر، أو حاجة نافعة بحيث لو لم يوجد لاختل حال الآخر، وذلك أن السعادة الحقيقية الأخروية لا سبيل إلى الوصول إليها إلا اكتساب الفضائل النفسية، ولا سبيل إلى تحصيل هذه إلا بصحة البدن، وقوته، وأنه لا تغني الفضائل النفسية والبدنية عن الفضائل الخارجة، فإنه إن أمكن أن يتصور حصولها إلا لمن لا مال له، ولا أهل، ولا عشيرة، فإنها لا تكمل إلا بها .
(وأعلاها) ، أي: تلك الفضائل (النفسية، ثم البدنية، ثم الخارجة) اللطيفة بالإنسان (فالخارجة أخسها، والمال من جملة الخارجات) فصاحبه يتمكن من الفضائل إذا فقده مشكل بلوغها، والفقير في تحري المكارم كساع إلى الهيجاء بغير سلاح، أو كباز متصيد بلا جناح، ولله در من قال:
فلا مجد في الدنيا لمن قل ماله ولا مال في الدنيا لمن قل مجده
ومن جملة الخارجات الأهل، فنعم العون على بلوغ السعادة، قال الشاعر:
ألم تر أن جمع القوم يخشى وإن حريم واحدهم مباح
والعز فيه يتأبى عن حمل الذل، ومن لا عز له لا يمكنه أن يذود عن حريمه، وكرم العشيرة، فإنه مخيلة لكرم الفرع، وقال الشاعر:
إن السري إذا سرى فبنفسه وابن السري إذا سرى أسراهما
وإذا علمت ذلك، فألق سمعك إلى أن المال إذا اعتبر لكونه أحد أسباب الحياة الدنيوية، فهو عظيم الخطر; لأنك متى توهمته مرتفعا يعسر على الناس تزجية معاشهم، وقد تقدم أن الناس يحتاج بعضهم إلى بعض، ولا يمكنهم التعايش ما لم يتظاهروا، وإذا اعتبر بسائر القنيات، فهو صغير الخطر; إذ هو أخس القنيات، والقنيات ثلاث: نفسية، وبدنية، وخارجة، والخارجة دونها (وأدناها) ، أي: الخارجات الناض المتعامل به، وهو (الدراهم والدنانير، فإنهما خادمان) غير مخدومين (ومرادان لغيرهما، ولا يرادان لذاتهما) ، فإنا لو تصورنا ارتفاع الضرورات التي بها يستدفع لكانت هي والحصباء سواء، وسائر القنيات خادم من وجه، ومخدوم من وجه؛ (إذ النفس هي الجوهر الشريف المطلوب سعادتها، وإنها تخدم العلم، والمعرفة، ومكارم الأخلاق لتحصيلها صفة في ذاتها، والبدن يخدم النفس بواسطة الحواس، والأعضاء، والمطاعم) ، والمشارب (والملابس تخدم البدن) ، والمآكل والملابس يخدمهما المال، فالمال من حقه أن يكون خادما لغيره من القنيات، وأن لا يكون شيء من القنيات خادما، وإن كان كثير من الناس بجهلهم يجعلون جاههم، وأبدانهم، ونفوسهم خدما لمالهم، وعبيدا .
(وقد سبق أن المقصود من المطاعم إبقاء) مسكة (البدن، ومن المناكح) صورة (إبقاء النسل، ومن البدن تكميل) هيئة (النفس، وتزكيتها، وتزيينها بالعلم والخلق) ، وإن كان جماله، وسمته، وحسن حاله مرغوبا فيها، إلا أن المقصود، وهو ما ذكره المصنف (ومن عرف هذا الترتيب، فقد عرف قدر المال، ووجه شرفه، وأنه من حيث هو ضرورة المطاعم والملابس التي هي ضرورة بقاء البدن الذي هو ضرورة كمال النفس الذي هو خير) ; ولذلك جعل من الخيرات المتوسطة (ومن عرف فائدة الشيء، وغايته) التي ينتهي إليها (ومقصده) منه (واستعمله لتلك الغاية، ملتفتا إليها) جاعلا تلك نصب عينيه (غير ناس لها، فقد أحسن) في صنيعه (وانتفع) بعمله (وكان ما حصل له الغرض) الذي هو بصدده (محمودا في حقه، فإذا المال آلة) لتحصيل الفضائل (ووسيلة إلى مقصود صحيح، ويصلح أن يتخذ) أيضا (آلة ووسيلة إلى مقاصد فاسدة، وهي المقاصد الصادة) ، أي: المانعة (من سعادة الآخرة) ، أي: عن تحصيلها (وتسد سبيل العلم والعمل، فهو إذا محمود مذموم; محمود بالإضافة إلى المقصد المحمود، ومذموم بالإضافة إلى المقصد المذموم) ، وبه اتضح كونه من الخيرات المتوسطة (فمن أخذ من الدنيا أكثر مما يكفيه) هو ومن تلزمه مؤنته (فقد أخذ حتفه) ، أي: هلاكه (وهو لا يشعر) بهلاكه (كما ورد به الخبر) الذي تقدم قريبا، وأوله: دعوا الدنيا لأهلها .