ولقد بلغنا أنهم كانوا إذا أقبلت الدنيا عليهم حزنوا ، وقالوا : ذنب عجلت عقوبته من الله ، وإذا رأوا الفقر مقبلا قالوا : مرحبا بشعار الصالحين .
وبلغنا أن بعضهم كان إذا أصبح وعند عياله شيء أصبح كئيبا حزينا وإذا لم يكن عندهم شيء أصبح فرحا مسرورا ، فقيل له : إن الناس إذا لم يكن عندهم شيء حزنوا وإذا كان عندهم شيء فرحوا ، وأنت لست كذلك قال : إني إذا أصبحت وليس عند عيالي شيء فرحت ؛ إذ كان لي برسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة وإذا كان عند عيالي شيء اغتممت ؛ إذ لم يكن لي بآل محمد أسوة .
وبلغنا أنهم كانوا إذا سلك بهم سبيل الرخاء حزنوا وأشفقوا وقالوا : ما لنا وللدنيا وما يراد بها ؟! فكأنهم على جناح خوف ، وإذا سلك بهم سبيل البلاء فرحوا واستبشروا ، وقالوا : الآن تعاهدنا ربنا .
فهذه أحوال السلف ونعتهم ، وفيهم من الفضل أكثر مما وصفنا .
فبالله أكذلك أنت إنك لبعيد الشبه بالقوم .
وسأصف لك أحوالك أيها المفتون ضدا لأحوالهم ، وذلك أنك تطغى عند الغنى وتبطر عند الرخاء وتمرح عند السراء ، وتغفل عن شكر ذي النعماء ، وتقنط عند الضراء ، وتسخط عند البلاء ، ولا ترضى بالقضاء .
نعم ، وتبغض الفقر وتأنف من المسكنة ، وذلك فخر المرسلين ، وأنت تأنف من فخرهم .
وأنت تدخر المال وتجمعه ؛ خوفا من الفقر ، وذلك من سوء الظن بالله عز وجل ، وقلة اليقين بضمانه ، وكفى به إثما ، وعساك تجمع المال لنعيم الدنيا وزهرتها وشهواتها ولذاتها .
(ولقد بلغنا أنهم كانوا إذا أقبلت الدنيا عليهم حزنوا، وقالوا: ذنب عجلت عقوبته من الله، وإذا رأوا الفقر مقبلا قالوا: مرحبا بشعار الصالحين) وقد روي ذلك من حديث nindex.php?page=showalam&ids=4أبي الدرداء، قال الله لموسى -عليه السلام- فذكره. ويروى أيضا عن nindex.php?page=showalam&ids=16850كعب الأحبار، وقد تقدم في ذم الدنيا، وسيأتي أيضا في كتاب الزهد والفقر .
(وبلغنا أن بعضهم كان إذا أصبح وعند عياله شيء) من الدنيا (أصبح كئيبا حزينا) مغموما (وإذا) أصبح و (لم يكن عندهم شيء أصبح فرحا مسرورا، فقيل له: إن الناس إذا لم يكن عندهم شيء حزنوا وإذا كان عندهم شيء فرحوا، وأنت لست كذلك؟! فقال: إني إذا أصبحت وليس عند عيالي شيء فرحت؛ إذ كان لي بمحمد -صلى الله عليه وسلم- أسوة) فإنه كثيرا ما يصبح وليس عند عياله شيء (فإذا كان عند عيالي شيء اغتممت؛ إذ لم يكن لي بآل محمد -صلى الله عليه وسلم- أسوة، وبلغنا أنهم كانوا إذا سلك بهم سبيل الرخاء حزنوا وأشفقوا) على أنفسهم .
(وقالوا: ما لنا وللدنيا وما يراد منها؟! فكأنهم على جناح خوف، وإذا سلك بهم سبيل البلاء فرحوا واستبشروا، وقالوا: الآن تعاهدنا ربنا) أي: نظر إلينا بالرضا، رواه صاحب القوت، عن الحسن قال: "كانوا بالبلاء والشدة أشد فرحا منكم بالرخاء والخصب، لو رأيتموهم قلتم مجانين، ولو رأوا خياركم قالوا: ما لهؤلاء من خلاق، ولو رأوا أشراركم قالوا: ما يؤمن هؤلاء بيوم الحساب .
(فهذه أحوال السلف ونعتهم، وفيهم من الفضل أكثر مما وصفنا، فبالله أكذلك أنت) وفيك هذه الأوصاف (إنك لبعيد الشبه بالقوم، وسأصف لك أحوالك أيها المفتون ضد أحوالهم، وذلك أنك تطغى عند الغنى) أي: تتجاوز عن الحدود (وتبطر في الرخاء) أي: تكفر بالنعمة ولا تشكرها (وتمرح عند السراء، وتغفل عن شكر ذي النعماء، وتقنط عند الضراء، وتسخط عند البلاء، ولا ترضى بالقضاء، نعم، وتبغض الفقر) إذا أقبل إليك .
(وبلغنا أن بعض أهل العلم قال: ليجيء يوم القيامة قوم يطلبون حسنات لهم فيقال لهم: أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا واستمتعتم بها ) روى nindex.php?page=showalam&ids=15627جرير بن حازم، عن الحسن قال: قال nindex.php?page=showalam&ids=2عمر بن الخطاب: "والله إني لو شئت لكنت من ألينكم طعاما، وأرقكم عيشا، ولكن سمعت الله تعالى يقول عن قوم: أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا الآية".
وروى ابن قانع، عن nindex.php?page=showalam&ids=267سالم مولى أبي حذيفة قال: "يؤتى بأقوام يوم القيامة معهم حسنات كالجبال حتى إذا دنوا وأشرفوا على الجنة فردوا أن لا نصيب لكم فيها".
(وأنت في غفلة قد حرمت نعيم الآخرة بسبب نعيم الدنيا، فيا لها حسرة ومصيبة! نعم، وعساك تجمع المال للتكاثر والعلو والفخر والزينة في الدنيا، وقد بلغنا أنه من طلب الدنيا ليكاثر أو ليفاخر بها لقي الله وهو عليه غضبان) وهو قطعة من حديث nindex.php?page=showalam&ids=3أبي هريرة، أوله: nindex.php?page=hadith&LINKID=36764 "من طلب الدنيا حلالا، استعفافا عن المسألة، وسعيا على أهله، وتعطفا على جاره، بعثه الله يوم القيامة ووجهه مثل القمر ليلة البدر، ومن طلبها حلالا مكاثرا بها مفاخرا لقي الله -عز وجل- وهو عليه غضبان" رواه nindex.php?page=showalam&ids=11868أبو الشيخ في الثواب، nindex.php?page=showalam&ids=12181وأبو نعيم في الحلية، nindex.php?page=showalam&ids=13933والبيهقي في الشعب، وقد تقدم في كتاب الكسب وآداب المعيشة .
(وأنت غير مكترث بما حل بك من غضب الله حين أردت التكاثر والعلو، نعم، وعساك المكث في الدنيا أحب إليك من النقلة إلى جوار الله تعالى، وأنت تكره لقاء الله تعالى، والله للقائك أكره) ففي الخبر: nindex.php?page=hadith&LINKID=656026 "من أحب لقاء الله تعالى أحب الله لقاءه، ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه" متفق عليه من حديث nindex.php?page=showalam&ids=63عبادة بن الصامت، ومن حديث nindex.php?page=showalam&ids=25عائشة، ومن حديث nindex.php?page=showalam&ids=110أبي موسى.
(وأنت في غفلة، وعساك تأسف على ما فاتك من عرض الدنيا، وقد بلغنا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم- قال: "من أسف على دنيا فاتته اقترب من النار مسافة سنة") قال العراقي: رويناه في كتاب القربة لأبي حفص العتكي من رواية nindex.php?page=showalam&ids=16709عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، وقال: "مسيرة ألف سنة" وإسناده ضعيف، ورويناه في الجزء الثاني عشر من فوائد nindex.php?page=showalam&ids=14245الخلعي من هذا الوجه. اهـ .
قلت: وهو في مشيخة أبي عبد الله الرازي هكذا بزيادة: "ومن أسف على آخرة فاتته اقترب من الجنة مسافة ألف سنة".
(وأنت تأسف على ما فاتك) من الدنيا (غير مكترث بقربك من عذاب الله، نعم، ولعلك تخرج من دينك أحيانا لتوفير دنياك) أي: لتكثيرها (وتفرح بإقبال الدنيا عليك، وترتاح لذلك؛ سرورا بها، وقد بلغنا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم- قال: "من أحب الدنيا وسر بها ذهب خوف الآخرة من قلبه") قال العراقي: لم أجده إلا بلاغا للحارث بن أسد، كما ذكره المصنف عنه .