وكما أن الغني هو الذي يملك الدراهم والدنانير ، أي : يقدر عليهما ليتوصل بهما إلى الأغراض والمقاصد وقضاء الشهوات وسائر حظوظ النفس فكذلك ذو الجاه هو الذي يملك قلوب الناس ، أي : يقدر على أن يتصرف فيها ليستعمل بواسطتها أربابها في أغراضه ومآربه .
، وكما أنه يكتسب الأموال بأنواع من الحرف والصناعات فكذلك يكتسب قلوب الخلق بأنواع من المعاملات ولا تصير القلوب مسخرة إلا بالمعارف والاعتقادات فكل من اعتقد القلب فيه وصفا من أوصاف الكمال انقاد له ، وتسخر له ، بحسب قوة اعتقاد القلب ، وبحسب درجة ذلك الكمال عنده وليس يشترط أن يكون الوصف كمالا في نفسه بل يكفي أن يكون كمالا عنده وفي اعتقاده ، وقد يعتقد ما ليس كمالا كمالا ، ويذعن قلبه للموصوف به انقيادا ضروريا بحسب اعتقاده ، فإن انقياد القلب حال للقلب .
وأحوال القلوب تابعة لاعتقادات القلوب وعلومها وتخيلاتها وكما أن محب المال يطلب ملك الأرقاء والعبيد .
فطالب الجاه يطلب أن يسترق الأحرار ويستعبدهم ويملك رقابهم بملك قلوبهم بل الرق الذي يطلبه صاحب الجاه أعظم لأن المالك يملك العبد قهرا والعبد متأب بطبعه ولو خلي ورأيه انسل عن الطاعة وصاحب الجاه يطلب الطاعة طوعا ، ويبغي أن تكون له الأحرار عبيدا بالطبع والطوع مع الفرح بالعبودية والطاعة له فما يطلبه فوق ما يطلبه مالك الرق بكثير .
فإذا : معنى الجاه قيام المنزلة في قلوب الناس ، أي : اعتقاد القلوب لنعت من نعوت الكمال فيه فبقدر ، ما يعتقدون من كماله تذعن له قلوبهم ، وبقدر إذعان القلوب تكون قدرته على القلوب ، وبقدر قدرته على القلوب يكون فرحه وحبه للجاه .
فهذا هو معنى الجاه وحقيقته ، وله ثمرات كالمدح والإطراء فإن المعتقد للكمال لا يسكت عن ذكر ما يعتقده ، فيثني عليه وكالخدمة والإعانة فإنه لا يبخل ببذل نفسه في طاعته بقدر اعتقاده ، فيكون سخرة له مثل العبد في أغراضه وكالإيثار وترك المنازعة والتعظيم والتوقير بالمفاتحة بالسلام وتسليم الصدر في المحافل والتقديم في جميع المقاصد . فهذه آثار تصدر عن قيام الجاه في القلب ، ومعنى قيام الجاه في القلب اشتمال القلوب على اعتقاد صفات الكمال في الشخص ، إما بعلم أو عبادة أو حسن خلق أو نسب أو ولاية أو جمال في صورة أو قوة في بدن أو شيء مما يعتقده الناس كمالا فإن هذه الأوصاف كلها تعظم محله في القلوب فتكون ، سببا لقيام الجاه والله تعالى أعلم .
.
(بيان معنى الجاه وحقيقته) *
(اعلم) وفقك الله تعالى (أن الجاه والمال هما ركنا الدنيا) وعليهما قيامها ومدارها (ومعنى المال: ملك الأعيان المنتفع بها. ومعنى الجاه: ملك القلوب المطلوب تعظيمها وطاعتها، وكما أن الغني هو الذي يملك الدراهم والدنانير، أي: يقدر عليهما) ويتمكن منهما (ليتوصل بهما إلى الأغراض والمقاصد) أي: إلى تحصيلها لنفسه (و) كذا (قضاء الشهوات وسائر حظوظ النفس) من الأمور الدنيوية، فإن التوصل إليها متوقف على القدرة على الدراهم والدنانير (فكذلك ذو الجاه هو الذي يملك قلوب الناس، أي: يقدر على أن يتصرف فيها ليستعمل بواسطتها أربابها في) قضاء (أغراضه، و) حصول (مآربه، وكما أنه يكتسب المال بأنواع من الحرف والصناعات فكذلك تكتسب قلوب الخلق بأنواع من المعاملات) فهي جارية مجرى الحرف والصناعات .
(ولا تصير القلوب مسخرة) أي: منقادة (إلا بالمعارف والاعتقادات فكل من اعتقد القلب فيه وصفا من أوصاف الكمال انقاد له، وتسخر له، بحسب قوة اعتقاده، وبحسب درجة ذلك الكمال عنده) فكلما قوي الكمال قوي الاعتقاد فقوي الانقياد (وليس يشترط أن يكون الوصف) القائم بذلك الشخص (كمالا في نفسه) أي: ذاته (بل يكفي أن يكون الوصف كمالا عنده وفي اعتقاده، وقد يعتقد ما ليس كمالا، ويذعن قلبه للموصوف به قياما ضروريا بحسب اعتقاده، فإن انقياد القلب حال للقلب، وأحوال القلب تابعة لاعتقادات القلوب وعلومها وتخيلاتها) فما اعتقده القلب أو تخيله كمالا لزمه الانقياد لا محالة. هب أن ذلك الكمال نقص في نفسه، أو بالنسبة للغير؛ إذ الوصف الواحد قد يتصف بالكمال والنقص بالنسبة إلى الأشخاص .
(وكما أن محب المال يطلب ملك الأرقاء والعبيد فطالب الجاه يطلب أن يسترق الأحرار ويستعبدهم ويملك رقابهم بملك قلوبهم) واستمالتهم (بل الرق الذي يطلبه صاحب الجاه أعظم) من رق المال (إلا أن المالك يملك العبد قهرا) عن نفسه (والعبد متأب) أي: ممتنع (بطبعه) لا يريد استرقاقه (ولو خلي) أي: ترك ورأيه ( انسل من الطاعة) وخرج عنها (وصاحب الجاه يطلب الطاعة طوعا، ويبغي) أي: يطلب (أن تكون الأحرار له عبيدا بالطبع والطوع) من غير قهر، والجاه (مع الفرح بالعبودية والطاعة له فما يطلبه) هو (فوق ما يطلبه مالك الرق بكثير، فإذا: معنى الجاه قيام المنزلة في قلوب الناس، أي: اعتقاد القلوب لنعت من نعوت الكمال فيه، فبقدر ما يعتقد من كماله تذعن له قلوبهم، وبقدر إذعان القلوب تكون قدرته على القلوب، وبقدر قدرته على القلوب يكون فرحه وحبه للجاه، فهذا هو معنى الجاه وحقيقته، وله ثمرات كالمدح والإطراء) وهو المبالغة في المدح .
(فإن المعتقد للكمال لا يسكت عن ذكر ما يعتقده، فيثني عليه) ويبالغ (وكالخدمة) بين يديه (والإعانة) من مهماته الضرورية (فإنه لا يبخل ببذل نفسه في طاعته بقدر اعتقاده، فيكون سخرة له مثل العبيد في أغراضه) .
[ ص: 240 ] بل أكثر (وكالإيثار) بأن يؤثره على نفسه وعلى غيره (وترك المنازعة) له في الأمور (والتعظيم والتوقير بالفاتحة بالسلام) والمثول بين يديه حتى يشير له بالجلوس (وتسليم الصدر) وهو أرفع المواضع (في المحافل) العامة والخاصة (والتقديم في جميع المقاصد. فهذه آثار تصدر عن قيام الجاه في القلوب، ومعنى قيام الجاه في القلب اشتمال القلوب على اعتقاد صفات الكمال في الشخص، إما بعلم أو بعبادة) أو بهما جميعا، وهو أقوى (أو حسن خلق) في العشرة (أو نسب) كأن يكون له اتصال بالبضعة الطاهرة (أو ولاية) وهي الصلاح المعنوي (أو جمال في صورة) ظاهرة (أو قوة في بدن أو شيء مما يعتقده الناس كمالا) عندهم (فإن هذه الأوصاف) كلها مجموعها وأفرادها (تعظم محله في القلوب، فيكون سببا لقيام الجاه) .