وكذلك يحب الإنسان اتساع الجاه وانتشار الصيت إلى أقاصي البلاد التي يعلم قطعا أنه لا يطؤها ولا يشاهد أصحابها ؛ ليعظموه ، أو ليبروه بمال ، أو ليعينوه على غرض من أغراضه ، ومع اليأس من ذلك فإنه يلتذ به غاية الالتذاذ ، وحب ذلك ثابت في الطبع ويكاد يظن أن ذلك جهل ؛ فإنه حب لما لا فائدة فيه ، لا في الدنيا ولا في الآخرة ، فنقول : نعم ، هذا الحب لا تنفك عنه القلوب .
وله سببان .
أحدهما جلي تدركه الكافة .
والآخر خفي ، وهو أعظم السببين ، ولكنه أدقهما وأخفاهما وأبعدهما عن أفهام الأذكياء فضلا عن الأغبياء وذلك لاستمداده من عرق خفي في النفس وطبيعة مستكنة في الطبع ، لا يكاد يقف عليها إلا الغواصون .
فأما السبب الأول فهو دفع ألم الخوف لأن الشفيق بسوء الظن مولع والإنسان وإن كان مكفيا في الحال فإنه طويل الأمل ، ويخطر بباله أن المال الذي فيه كفايته ربما يتلف ، فيحتاج إلى غيره ، فإذا خطر ذلك بباله هاج الخوف من قلبه ، ولا يدفع ألم الخوف إلا الأمن الحاصل بوجود مال آخر يفزع إليه إن أصابت هذا المال جائحة فهو أبدا لشفقته على نفسه وحبه للحياة يقدر طول الحياة ويقدر هجوم الحاجات ويقدر إمكان تطرق الآفات إلى الأموال ، ويستشعر الخوف من ذلك ، فيطلب ما يدفع خوفه ، وهو كثرة المال ، حتى إن أصيب بطائفة من ماله استغنى بالآخر .
ومثل هذه العلة تطرد في حبه قيام المنزلة والجاه في قلوب الأباعد عن وطنه وبلده ، فإنه لا يخلو عن تقدير سبب يزعجه عن الوطن ، أو يزعج أولئك عن أوطانهم إلى وطنه ، ويحتاج إلى الاستعانة بهم ، ومهما كان ذلك ممكنا ولم يكن احتياجه إليهم مستحيلا إحالة ظاهرة كان للنفس فرح ولذة بقيام الجاه في قلوبهم ؛ لما فيه من الأمن من هذا الخوف .
وأما السبب الثاني وهو الأقوى لأن : الروح أمر رباني به ، وصفه الله تعالى إذ قال سبحانه : ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي ومعنى كونه ربانيا أنه من أسرار علوم المكاشفة ، ولا رخصة في إظهاره إذ ؛ لم يظهره رسول الله صلى الله عليه وسلم .
ولكنك قبل معرفة ذلك تعلم أن للقلب ميلا إلى صفات بهيمية كالأكل والوقاع وإلى صفات سبعية كالقتل والضرب والإيذاء وإلى صفات شيطانية كالمكر والخديعة والإغواء وإلى صفات ربوبية كالكبر والعز والتجبر وطلب الاستعلاء ؛ وذلك لأنه مركب من أصول مختلفة يطول شرحها وتفصيلها ، فهو لما فيه من الأمر الرباني يحب الربوبية بالطبع ، ومعنى الربوبية التوحد بالكمال ، والتفرد بالوجود على سبيل الاستقلال .
فصار الكمال من صفات الإلهية فصار ، محبوبا بالطبع للإنسان والكمال بالتفرد بالوجود ، فإن المشاركة في الوجود نقص لا محالة ، فكمال الشمس في أنها موجودة وحدها ، فلو كان معها شمس أخرى لكان ذلك نقصا في حقها ؛ إذ لم تكن منفردة بكمال معنى الشمسية ، والمنفرد بالوجود هو الله تعالى ؛ إذ ليس معه موجود سواه فإن ما سواه أثر من آثار قدرته ، لا قوام له بذاته ، بل هو قائم به فلم يكن موجودا معه ؛ لأن المعية توجب المساواة في الرتبة ، والمساواة في الرتبة نقصان في الكمال ، بل الكامل من لا نظير له في رتبته .
وكما أن إشراق نور الشمس في أقطار الآفاق ليس نقصانا في الشمس بل هو من جملة كمالها وإنما نقصان الشمس بوجود شمس أخرى تساويها في الرتبة مع الاستغناء عنها ، فكذلك وجود كل ما في العالم يرجع إلى إشراق أنوار القدرة فيكون تابعا ولا يكون متبعا فإذا معنى الربوبية التفرد بالوجود وهو الكمال .
وكل إنسان فإنه بطبعه محب لأن يكون هو المنفرد بالكمال ؛ ولذلك قال بعض مشايخ الصوفية : ما من إنسان إلا وفي باطنه ما صرح به فرعون من قوله : أنا ربكم الأعلى ولكنه ليس يجد له مجالا وهو كما قال ؛ فإن العبودية قهر على النفس .
والربوبية محبوبة بالطبع ، وذلك للنسبة الربانية التي أومأ إليها قوله تعالى : قل الروح من أمر ربي ولكن لما عجزت النفس عن درك منتهى الكمال لم تسقط شهوتها للكمال ؛ فهي محبة للكمال ومشتهية له ، وملتذة به لذاته ، لا لمعنى آخر وراء الكمال .
(وكذلك يحب الإنسان اتساع الجاه وانتشار الصيت إلى أقاصي البلاد التي يعلم قطعا أنه قط لا يطؤها) ولا يراها (ولا يشاهد أصحابها؛ ليعظموه، أو ليبروه بمالهم، أو ليعينوه على غرض من أغراضه، ومع اليأس من ذلك فإنه يلتذ به غاية الالتذاذ، وحب ذلك ثابت في الطبع) مركوز فيه .
(ويكاد يظن أن ذلك جهل؛ فإنه حب لما لا فائدة فيه، لا في الدنيا ولا في الآخرة، فنقول: نعم، هذا الحب لا تنفك عنه القلوب، وله سببان أحدهما جلي) ظاهر (يدركه الكافة) من الناس (والآخر خفي، وهو أعظم السببين، ولكنه أدقهما وأخفاهما وأبعدهما عن أفهام الأذكياء) النجباء (فضلا عن الأغبياء) البلداء (وذلك لاستمداده من عرق خفي) دساس (في النفس وطبيعة مستكنة في الطبع، لا يكاد يقف عليها إلا الغواصون) في بحار الحقائق .
(فأما السبب الأول) الجلي (فهو دفع ألم الخوف لأن الشفيق) على نفسه أي: الخائف (بسوء الظن مولع) أي: أبدا يسيء ظنه (والإنسان وإن كان مكفيا في الحال) عنده ما يكفيه (فإنه [ ص: 242 ] طويل الأمل، ويخطر بباله أن المال الذي فيه كفايته ربما يتلف، فيحتاج إلى غيره، فإذا خطر ذلك بباله هاج الخوف من قلبه، ولا يدفع ألم الخوف من قلبه إلا الأمن الحاصل بوجود مال آخر يفزع إليه إن أصابت هذا المال جائحة) أي: آفة (فهو أبدا لشفقته على نفسه) أي: خوفه عليها (وحبه للحياة يقدر طول الحياة ويقدر هجوم الحاجات) أي: طروقها فجأة (ويقدر إمكان تطرق الآفات إلى الأموال، ويستشعر الخوف من ذلك، فيطلب ما يدفع به خوفه، وهو كثرة المال، حتى إذا أصيب بطائفة من ماله استغنى بالآخر، وهذا خوف لا موقف له عند مقدار مخصوص من المال؛ ولذلك لم يكن لمثله موقف إلى أن يملك جميع ما في الدنيا؛ ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: nindex.php?page=hadith&LINKID=930771 "منهومان لا يشبعان؛ منهوم العلم ومنهوم المال") رواه nindex.php?page=showalam&ids=14687الطبراني من حديث nindex.php?page=showalam&ids=10ابن مسعود بسند ضعيف، ورواه nindex.php?page=showalam&ids=13863البزار nindex.php?page=showalam&ids=14687والطبراني في الأوسط من حديث nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس، وقد تقدم. وقد روي هذا الكلام أيضا nindex.php?page=showalam&ids=8لعلي - رضي الله عنه- ذكره صاحب نهج البلاغة .
(ومثل هذه العلة تطرد في حبه قيام المنزلة والجاه في قلوب الأباعد عن وطنه وبلده، فإنه لا يخلو عن تقدير سبب يزعجه) أي: يقلقه (عن الوطن، أو يزعج أولئك عن أوطانهم إلى وطنه، ويحتاج إلى الاستعانة بهم، ومهما كان ذلك ممكنا ولم يكن احتياجه إليهم مستحيلا إحالة ظاهرة كان للنفس فرح ولذة بقيام الجاه في قلوبهم؛ لما فيه من الأمن من هذا الخوف .
وأما السبب الثاني) الخفي (وهو الأقوى: أن الروح أمر رباني به، وصفه الله تعالى إذ قال: ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي ومعنى كونه ربانيا أنه من أسرار علوم المكاشفة، ولا رخصة في إظهاره؛ إذ لم يظهره رسول الله صلى الله عليه وسلم) كما رواه nindex.php?page=showalam&ids=12070البخاري من حديث nindex.php?page=showalam&ids=10ابن مسعود، وقد تقدم .
وحيث أمسك -صلى الله عليه وسلم- عن الإخبار عن الروح أو ماهيته بإذن الله تعالى ووحيه، وهو -صلى الله عليه وسلم- معدن العلم، وينبوع الحكمة، كيف يسوغ لغيره الخوض فيه والإشارة؟! لا جرم لما تقاضت النفس الإنسانية المتطلعة إلى الفضول، المتشرفة إلى المعقول، المتحركة بوضعها إلى كل ما أمرت فيه بالسكوت، والمثورة بحرصها إلى كل تحقيق وكل تمويه - تاهت في التيه، وتنوعت آراؤها فيه، ولم يوجد الاختلاف بين أرباب النقل والعقل في شيء كالاختلاف في ماهية الروح، ولو لزمت النفوس حدها معترفة بعجزها كان ذلك أجدر بها وأولى .
(ولكنك قبل معرفة ذلك تعلم أن للقلب ميلا إلى صفات بهيمية كالأكل والوقاع) فإن من شأن البهائم كذلك (وإلى صفات سبعية كالقتل والضرب والإيذاء) فإن من شأن السباع كذلك (وإلى صفات شيطانية كالمكر والخديعة والإغواء) فإن من شأن الشياطين كذلك (وإلى صفات ربوبية كالكبر والعز والتجبر) والقهر (وطلب الاستعلاء؛ وذلك لأنه مركب من أصول مختلفة) من ماء وطين لازب وصلصال وفخار (يطول شرح تفصيلها، فهو لما) نفخ (فيه من الأمر الرباني يحب الربوبية بالطبع، ومعنى الربوبية التوحد بالكمال، والتفرد بالوجود على سبيل الاستقلال، فصار الكمال من نعوت الإلهية، وصار محبوبا بالطبع) لا ينفك (والكمال في التفرد بالوجود، فإن المشاركة في الوجود نقص لا محالة، فكمال الشمس في أنها موجودة وحدها، فلو كان معها شمس أخرى كان ذلك نقصانا في حقها؛ إذ لم تكن منفردة بكمال معنى الشمسية، والمنفرد بالوجود هو الله تعالى؛ إذ ليس معه موجود سواه [ ص: 243 ] فإن ما سواه أثر من آثار قدرته، لا قوام له بذاته، بل هو قائم به) إذ هو واجب الوجود لذاته، وما سواه ممكن الوجود، والوجود عارض له .
(فلم يكن موجودا معه؛ لأن المعية توجب المساواة في الرتبة، والمساواة في الرتبة نقصان في الكمال، بل الكمال ممن لا نظير له) وفي بعض النسخ والكامل: من لا نظير له (في رتبته، وكما أن إشراق نور الشمس في أقطار الآفاق) وجوانبها ليس نقصانا في الشمس بل هو من جملة كمالها؛ إذ هو راجع إليه (وإنما نقصان الشمس بوجود شمس أخرى تساويها في الرتبة مع الاستغناء، فكذلك كل ما في العالم يرجع إلى إشراق أنوار القدرة) الباهرة (فيكون تابعا ولا يكون متبعا، فإذا: معنى الربوبية التفرد بالوجود وهو الكمال، وكل إنسان فإنه بطبعه محب لأن يكون هو المتفرد بالكمال؛ ولذلك قال بعض مشايخ الصوفية: ما من إنسان إلا وفي باطنه ما صرح به فرعون من قوله: أنا ربكم الأعلى ولكنه ليس يجد له مجالا) .
وربما يستأنس لهذا القول بما رواه nindex.php?page=showalam&ids=13473ابن لال في مكارم الأخلاق من حديث nindex.php?page=showalam&ids=36جابر: "الجبروت في القلب" وما اشتهر على الألسنة من كلامهم: "الظلم كمين في النفس، العجز يخفيه والقدرة تبديه" .
(وهو كما قال؛ فإن العبودية قهر على النفس، والربوبية محبوبة بالطبع، وذلك للنسبة الربانية التي أومأ) أي: أشار (إليها قوله تعالى: قل الروح من أمر ربي ولكن لما عجزت النفس عن درك منتهى الكمال لم تسقط شهوتها للكمال؛ فهي محبة للكمال) أبدا (ومشتهية له، وملتذة به لذاته، لا لمعنى آخر وراء الكمال، فكل موجود فهو محب لذاته، ولكمال ذاته، ومبغض للهلاك الذي هو عدم ذاته، أو عدم صفات الكمال من ذاته، وإنما الكلام بعد أن يسلم التفرد بالوجود في الاستيلاء) والغلبة (على كل الموجودات فإن أكمل الكمال) إلى غاية درجاته (أن يكون وجود غيرك منك، فإن لم يكن منك فأن تكون مستوليا عليه، فصار الاستيلاء على الكل محبوبا بالطبع؛ لأنه نوع كمال) بالإضافة إلى الأول .