قال المصنف: (وبرهانه أنه لو كان حادثا ولم يكن قديما لافتقر) أي احتاج (إلى محدث) وبيانه أنه لو لم يكن قديما لكان حادثا؛ لوجوب انحصار كل موجود في القدم والحدوث، فمهما انتفى أحدهما تعين [ ص: 96 ] الآخر، والحدوث على الله - عز وجل- مستحيل; لأنه يستلزم له محدث; لما تقدم في حدوث العالم أن كل حادث لا بد له من محدث، فينقل الكلام إلى ذلك المحدث، فإن كان قديما فهو المراد بمسمى كلمة الجلالة، وإن لم يكن قديما كان حادثا (وافتقر محدثه إلى محدث، ويتسلسل ذلك إلى غير نهاية، وما تسلسل) لا إلى نهاية (لم يتحصل) أي أن تسلسل هكذا لزم عدم حصول حادث منها أصلا; لما سبق أن المحال -وهو وجود حوادث لا أول لها- يستلزم استحالة وجود الحادث الحاضر، وأيضا فإن التسلسل يؤدي إلى فراغ ما لا نهاية له، وذلك لا يعقل، وإن كان الأمر ينتهي إلى عدد متناه فيلزم الدور، وهو محال أيضا; لأنه يلزم عليه تقدم الشيء على نفسه، وتأخره عنها، فإذا كان الحدوث يؤدي إلى الدور أو التسلسل المحالين لزم أن يكون محالا (أو ينتهي إلى محدث قديم هو الأول) وهو مسمى كلمة الجلالة (وذلك هو المطلوب الذي سميناه صانع العالم وبارئه ومحدثه ومبدئه) على غير مثال سابق .
قال الشارح: وهذا الاستدراك للتنبيه على أن قولنا "على" ليس على طريقة الفلاسفة، وهو أن العلة توجب المعلول، وذلك أي: الطريق المذكور في حوادث لا أول لها لم يفرض فيه غير ترتب تلك الحوادث في الوجود دون تعرض لكون كل منها علة لوجود ما يليه، لكن حصول الحوادث ثابت ضرورة بالحس والعقل، فيجب أن ينتهي حصولها في الوجود إلى موجد لا أول له، ولا يراد بالاسم الذي هو الله إلا ذلك .
وقال إمام الحرمين في "الإرشاد": فإن قيل: إثبات موجد لا أول له إثبات أوقات متعاقبة لا نهاية لها، إذ لا يعقل استمرار وجود إلا في أوقات، وذلك يؤدي إلى إثبات حوادث لا أول لها، وقد تبين بطلانها، قلنا: هذا زلل ممن ظنه، فإن الأوقات يعبر بها عن موجودات تقارن موجودا، وكل موجود أضيف إلى مقارنة موجود، فهو وقته، والمستمر في العادات التعبير بالأوقات عن حركات الفلك وتعاقب الجديدين، فإذا تبين ذلك في معنى الوقت فليس من شرط وجود الشيء أن يفارقه موجود آخر إذا لم يتعلق أحدهما بالثاني في قضية عقلية، ولو افتقر كل موجود إلى وقت وقدرت الأوقات موجودة لافتقرت إلى أوقات، وذلك يجر إلى جهالات لا ينتحلها عاقل، فالباري تعالى قبل حدوث الحوادث منفرد بوجوده وصفاته لا يقارنه حادث. اهـ .
وهذا الذي ذكره إمام الحرمين قد زاده وضوحا ابن التلمساني في شرح اللمع nindex.php?page=showalam&ids=12441لإمام الحرمين، فقال ما نصه: فإن قيل: القبول بالقدم يلزم منه وجود أزمنة لا نهاية لها، إذ لا يعقل استمرار وجود، وبقاؤه إلا بزمان، وأنتم لا تقولون به. قلنا: الزمان يطلق باعتبارات ثلاثة، وكلها منتفية بالنسبة إلى الباري تعالى: الأول: الإطلاق العرفي، وهو مرور الليالي والأيام، وذلك تابع لحركات الأفلاك، وقد أقمنا الدليل على حدوث العالم، فقد كان الله ولا زمان بهذا الاعتبار، وكان الله ولا شيء معه. الثاني: ما اصطلح عليه المتكلمون، وهو مقارنة متحدد لمتحدد توقيتا للمجهول بالمعلوم، وذلك يختلف بالنسبة إلى السامع، فنقول: ولد النبي -صلى الله عليه وسلم- عام الفيل، فنجعله وقتا لمولده -صلى الله عليه وسلم- وزمانا له لمن يعلم عام الفيل ولا يعلم مولده -صلى الله عليه وسلم-، وتقول: عام الفيل مولد النبي -صلى الله عليه وسلم- فتوقته بمولده -صلى الله عليه وسلم- لمن يعلمه ولا يعلم عام الفيل، فهو أمر فرضي، وذلك لا يتحقق في الأزل، أو لا يتجدد في الأزل، ويطلق في اصطلاح الحكماء على أمر حركة الفلك، وهو تابع لحركات الأفلاك، فلا يكون أزليا، فبأي معنى فسر الزمان، لا يكون أزليا. اهـ .
ثم هذا الذي ذكره المصنف من الاستدلال على قدم الباري تعالى هو المشهور بين المتكلمين، وهو الذي اقتصر عليه الجماهير من المتقدمين، وزاد بعضهم فقال: ودليل ثان، وهو أنه تعالى واجب لذاته، والواجب لذاته لا يقبل الانتفاء [ ص: 97 ] بحال؛ فيلزم قدمه وبقاؤه، قاله ابن التلمساني، واقتصر على هذا الدليل السبكي في شرح عقيدة nindex.php?page=showalam&ids=12671ابن الحاجب، وقرره بما نصه: صانع العالم واجب الوجود، وكل واجب الوجود فوجوده من ذاته، وكل ما هو موجود من ذاته فعدمه محال، وكل ما عدمه محال لم يمكن عدمه قط، وكل ما لا يمكن عدمه قط فهو قديم، فصانع العالم قديم، وبالجملة فالقدم من اللوازم البينة لذات الواجب، وثبوت مستلزم المستلزم مستلزم لثبوت اللازم. اهـ .
وأما الصوفي فإنه يقول: كل قضية بديهية فلوازمها البينة بديهية، وهذا لازم بين لثبوت الوجود الذاتي، إذ كلما تصور القدم ووجود الواجب لزم جزم العقل بوجوبهما .
قال ابن جماعة: التقدم خمسة: الأول: بالعلة، كحركة الأصبع على الخاتم، الثاني: بالذات، كالواحد على الاثنين، والثالث: بالشرف، كأبي بكر على nindex.php?page=showalam&ids=2عمر، والرابع: بالرتبة، كالجنس على النوع، والخامس: بالمكان، كالإمام على المأموم .
(الأصل الثالث: العلم بأنه تعالى مع كونه أزليا) وكونه (أبديا) أي: (ليس لوجوده آخر) أي: يستحيل أن يلحقه عدم، وهذه الصفة هي الصفة الثانية من الصفات السلبية على الأصح المعبر عنها بالبقاء، وهو عبارة عن سلب الانقضائية للوجود، والثلاثة بمعنى واحد، هذا معنى البقاء في حقه تعالى وحق صفاته، ويطلق البقاء بمعنى آخر، وهو مقارنة الوجود لزمانين فصاعدا، وهذا محال في حقه تعالى; لما عرفت من استحالة تقييد وجوده بالزمان .
وقال أبو منصور التميمي: اختلف أصحابنا في معنى الباقي وحقيقته، فمن قال منهم: إن الباقي ما قام به البقاء، امتنع من وصف صفات الله تعالى القديمة بذاته بأنها باقية، وقال: إنها موجودة أزلية قائمة بالله -عز وجل-، ولا يقال فيها: إنها باقية، ولا فانية، هذا قول عبد الله بن سعيد وأبي العباس القلانسي، ومن قال: إن الباقي ما له بقاء، ولم يشرط قيام البقاء به، كما ذهب إليه nindex.php?page=showalam&ids=13711أبو الحسن الأشعري، فإنه يقول: إن الصفات الأزلية القائمة بالله باقية دائمة، واختلف أصحابه في كيفية وصفها بالبقاء، فمنهم من قال: كل صفة منها باقية لنفسها، ونفسها بقاء لها، وبقاؤه بقاء لنفسه، وهذا اختيار nindex.php?page=showalam&ids=11812أبي إسحاق الإسفراييني، ومنهم من قال: بقاء الباري بقاء لنفسه ولسائر صفاته الأزلية، وهذا اختيار أبي بكر محمد بن الحسن بن فورك، وبه نقول. اهـ .