اعلم أن من غلب على قلبه حب الجاه صار مقصور الهم على مراعاة الخلق مشغوفا بالتودد إليهم والمراءاة ، لأجلهم ولا يزال في أقواله وأفعاله ملتفتا إلى ما يعظم منزلته عندهم وذلك بذر النفاق وأصل الفساد ويجر ذلك لا محالة إلى التساهل في العبادات ، والمراءاة بها ، وإلى اقتحام المحظورات للتوصل إلى اقتناص القلوب ولذلك شبه رسول الله صلى الله عليه وسلم حب الشرف والمال وإفسادهما للدين بذئبين ضاريين وقال صلى الله عليه وسلم إنه ينبت النفاق كما ينبت الماء البقل إذ النفاق هو مخالفة الظاهر للباطن بالقول أو الفعل ، وكل من طلب المنزلة في قلوب الناس فيضطر إلى النفاق معهم وإلى التظاهر بخصال حميدة هو خال عنها ، وذلك هو عين النفاق .
فحب الجاه إذا من المهلكات ، فيجب علاجه وإزالته عن القلب فإنه ، طبع جبل عليه القلب كما جبل على حب المال ، وعلاجه مركب من علم وعمل .
أما العلم : فهو أن يعلم السبب الذي لأجله أحب الجاه ، وهو كمال القدرة على أشخاص الناس ، وعلى قلوبهم وقد بينا أن ذلك إن صفا وسلم فآخره الموت ، فليس هو من الباقيات الصالحات بل لو سجد لك كل من على بسيط الأرض من المشرق إلى المغرب فإلى خمسين سنة لا يبقى الساجد ولا المسجود له ويكون حالك كحال من مات قبلك من ذوي الجاه مع المتواضعين له .
فهذا لا ينبغي أن يترك به الدين الذي هو الحياة الأبدية التي لا انقطاع لها ومن فهم الكمال الحقيقي والكمال الوهمي كما سبق صغر الجاه في عينه ، إلا أن ذلك إنما يصغر في عين من ينظر إلى الآخرة كأنه يشاهدها ويستحقر العاجلة ويكون الموت كالحاصل عنده ويكون حاله كحال nindex.php?page=showalam&ids=14102الحسن البصري حين كتب إلى nindex.php?page=showalam&ids=16673عمر بن عبد العزيز أما بعد ، فكأنك بآخر من كتب عليه الموت قد مات ، فانظر كيف مد نظره نحو المستقبل ، وقدره كائنا .
وكذلك حال nindex.php?page=showalam&ids=16673عمر بن عبد العزيز حين ، كتب في جوابه : أما بعد ، فكأنك بالدنيا لم تكن وكأنك بالآخرة لم تزل فهؤلاء كان التفاتهم إلى العاقبة ، فكان عملهم لها بالتقوى ؛ إذ علموا أن العاقبة للمتقين ، فاستحقروا الجاه والمال في الدنيا .
(بيان علاج حب الجاه) *
(اعلم أن من غلب على قلبه حب الجاه صار مقصور الهم على مراعاة الخلق) في أحوالهم (مشغوفا بالتودد إليهم، والمراياة لأجلهم) أي: إظهار الرياء (ولا يزال في أقواله وأفعاله وأعماله متلفتا إلى ما يعظم منزلته عندهم) ويرتفع مقامه وقدره لديهم (وذلك بذر النفاق) الذي يتولد منه (وأصل الفساد) الذي ينشأ عليه (ويجر ذلك لا محالة إلى التساهل في العبادات، والمراءاة بها، وإلى اقتحام المحظورات) وارتكابها (للتوصل إلى اقتناص القلوب) وتسخيرها (ولذلك شبه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حب الشرف والمال وإفسادهما للدين بذئبين ضاريين) كما في حديث nindex.php?page=showalam&ids=111أسامة بن زيد عند nindex.php?page=showalam&ids=14687الطبراني في الصغير، وفي الكبير من حديث nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس، وفي بعض الروايات وصفهما بعاديين، كما في حديث عاصم بن عدي عند nindex.php?page=showalam&ids=14687الطبراني في الأوسط، وفي أخرى وصفهما بجائعين كما في حديث nindex.php?page=showalam&ids=331كعب بن مالك عند nindex.php?page=showalam&ids=12251أحمد nindex.php?page=showalam&ids=13948والترمذي، وقد تقدم قريبا .
أما العلم: فهو أن يعلم السبب الذي لأجله أحب الجاه، وهو كمال القدرة على أشخاص الناس، وعلى قلوبهم)بملكها (وقد بينا) أيضا (أن ذلك) لا يصفو، و (إن صفا وسلم) من الكدر (فآخره الموت، فليس هو من الباقيات الصالحات) التي تستمر إلى ما بعد الموت (بل لو) فرض أنه (سجد لك كل من على بسيط الأرض من المشرق إلى المغرب) ودانوا لك (فإلى خمسين سنة لا يبقى الساجد ولا المسجود له) غالبا (ويكون حالك كحال من مات قبلك من ذوي الجاه مع المتواضعين له، فهذا لا ينبغي أن يترك به الدين الذي هو الحياة الأبدية التي لا انقطاع لها) بعد الموت (ومن فهم الكمال الحقيقي والكمال الوهمي كما سبق) ذكره قريبا (صغر الجاه في عينه، إلا أن ذلك إنما يصغر في عين من ينظر إلى الآخرة فكأنه يشاهدها) من وراء ستر رقيق (ويستحقر العاجلة) [ ص: 253 ] ويستهون أمرها (ويكون الموت كالحاصل عنده) حالا (ويكون حاله كحال nindex.php?page=showalam&ids=14102الحسن البصري) رحمه الله تعالى (حيث كتب إلى nindex.php?page=showalam&ids=16673عمر بن عبد العزيز) أخي عبد الملك وهو يومئذ خليفة:
(أما بعد، فكأنك بآخر من كتب عليه الموت قد مات، فانظر كيف مد نظره نحو المستقبل، وقدره كائنا. وكذلك nindex.php?page=showalam&ids=16673عمر بن عبد العزيز، حيث كتب في جوابه: أما بعد، فكأنك بالدنيا لم تكن وكأنك بالآخرة لم تزل) وهذا الكتاب وجوابه أخرجهما nindex.php?page=showalam&ids=12181أبو نعيم في الحلية، وقد تقدم ذكرهما في كتاب ذم الدنيا .
(فهؤلاء كان التفاتهم إلى العاقبة، فكان عملهم لها بالتقوى؛ إذ علموا أن العاقبة للمتقين، فاستحقروا المال والجاه في الدنيا) وإليه أشار القائل:
إن لله عبادا فطنا طلقوا الدنيا وخافوا الفتنا نظروا فيها فلما علموا أنها ليست لحي وطنا جعلوها لجة واتخذوا صالح الأعمال فيها سفنا