قد عرفت مما سبق أن الرياء محبط للأعمال ، وسبب للمقت عند الله تعالى ، وأنه من كبائر المهلكات ، وما هذا وصفه فجدير بالتشمير عن ساق الجد في إزالته ولو بالمجاهدة وتحمل المشاق فلا شفاء إلا في شرب الأدوية المرة البشعة وهذه مجاهدة يضطر إليها العباد كلهم ؛ إذ الصبي يخلق ضعيف العقل والتمييز ، ممتد العين إلى الخلق ، كثير الطمع فيهم ، فيرى الناس يتصنع بعضهم لبعض فيغلب عليه حب التصنع بالضرورة ، ويرسخ ذلك في نفسه وإنما يشعر بكونه مهلكا بعد كمال عقله وقد انغرس الرياء في قلبه ، وترسخ فيه ، فلا يقدر على قمعه إلا بمجاهدة شديدة ومكابدة لقوة الشهوات .
فلا ينفك أحد عن الحاجة إلى هذه المجاهدة ، ولكنها تشق أولا وتخف آخرا وفي علاجه مقامان :
أحدهما قلع : عروقه وأصوله التي منها انشعابه .
والثاني : دفع ما يخطر منه في الحال .
المقام الأول : في قلع عروقه واستئصال أصوله وأصله حب المنزلة والجاه .
وإذا فصل رجع إلى ثلاثة أصول وهي ، لذة المحمدة ، والفرار من ألم الذم ، والطمع فيما في أيدي الناس .
ويشهد للرياء بهذه الأسباب وأنها الباعثة للمرائي ما روى nindex.php?page=showalam&ids=110أبو موسى أن أعرابيا سأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ، الرجل يقاتل حمية ، ومعناه أنه يأنف أن يقهر ، أو يذم بأنه مقهور مغلوب وقال ، والرجل يقاتل ليرى مكانه وهذا هو طلب لذة الجاه والقدر في القلوب ، والرجل يقاتل للذكر ، وهذا هو الحمد باللسان ، فقال صلى الله عليه وسلم : من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله وقال nindex.php?page=showalam&ids=10ابن مسعود « إذا التقى الصفان نزلت الملائكة فكتبوا الناس على مراتبهم : فلان يقاتل للذكر ، وفلان يقاتل للملك والقتال للملك » إشارة إلى الطمع في الدنيا .
وقال nindex.php?page=showalam&ids=2عمر رضي الله عنه يقولون : فلان شهيد ، ولعله يكون قد ملأ دفتي راحلته ورقا .
وقال صلى الله عليه وسلم : « من غزا لا يبغي إلا عقالا فله ما نوى .
» فهذا إشارة إلى الطمع .
وقد لا يشتهي الحمد ، ولا يطمع فيه ، ولكن يحذر من ألم الذم كالبخيل ، بين الأسخياء وهم يتصدقون بالمال الكثير فإنه يتصدق بالقليل كي لا ؛ يبخل ، وهو ليس يطمع في الحمد ، وقد سبقه غيره ، وكالجبان بين الشجعان ، لا يفر من الزحف ؛ خوفا من الذم ، وهو لا يطمع في الحمد ، وقد هجم غيره على صف القتال .
ولكن إذا أيس من الحمد كره الذم ، وكالرجل بين قوم يصلون جميع الليل ، فيصلي ركعات معدودة حتى لا ؛ يذم بالكسل ، وهو لا يطمع في الحمد .
وقد يقدر الإنسان على الصبر عن لذة الحمد ولا يقدر على الصبر على ألم الذم ؛ ولذلك قد يترك السؤال عن علم هو محتاج إليه ؛ خيفة من أن يذم بالجهل ويفتي ، بغير علم ويدعي ، العلم بالحديث وهو به جاهل كل ذلك حذرا من الذم .
فهذه الأمور الثلاثة هي التي تحرك المرائي إلى الرياء ، وعلاجه ما ذكرناه في الشطر الأول من الكتاب على الجملة .
ولكنا نذكر الآن ما يخص الرياء وليس يخفى أن الإنسان إنما يقصد الشيء ويرغب فيه ؛ لظنه أنه خير له ، ونافع ولذيذ ، إما في الحال وإما في المآل ، فإن علم أنه لذيذ في الحال ولكنه ضار في المآل سهل عليه قطع الرغبة عنه ، كمن يعلم أن العسل لذيذ ولكن إذا بان له أن فيه سما أعرض عنه فكذلك طريق قطع هذه الرغبة أن يعلم ما فيه من المضرة .
ومهما عرف العبد مضرة الرياء ، وما يفوته من صلاح قلبه ، وما يحرم عنه في الحال من التوفيق ، وفي الآخرة من المنزلة عند الله ، وما يتعرض له من العقاب العظيم ، والمقت الشديد والخزي الظاهر ؛ حيث ينادى على رؤوس الخلائق يا فاجر ، يا غادر ، يا مرائي أما استحييت إذا اشتريت بطاعة الله عرض الدنيا ، وراقبت قلوب العباد ، واستهزأت بطاعة الله ، وتحببت إلى العباد بالتبغض إلى الله ، وتزينت لهم بالشين عند الله ، وتقربت إليهم بالبعد من الله ، وتحمدت إليهم بالتذمم عند الله ، وطلبت رضاهم بالتعرض لسخط الله ، أما كان أحد أهون عليك من الله ؟! فمهما تفكر العبد في هذا الخزي ، وقابل ما يحصل له من العباد والتزين ، لهم في الدنيا بما يفوته في الآخرة وبما ، يحبط عليه من ثواب الأعمال ، مع أن العمل الواحد ربما كان يترجح به ميزان حسناته لو خلص ، فإذا فسد بالرياء حول إلى كفة السيئات فترجح ، به ويهوي ، إلى النار ، فلو لم يكن في الرياء إلا إحباط عبادة واحدة لكان ذلك كافيا في معرفة ضرره ، وإن كان مع ذلك سائر حسناته راجحة فقد كان ينال بهذه الحسنة علو الرتبة عند الله في زمرة النبيين والصديقين ، وقد حط عنهم بسبب الرياء ورد إلى صف النعال من مراتب الأولياء ، هذا مع ما يتعرض له في الدنيا من تشتت الهم بسبب ملاحظة قلوب الخلق ؛ فإن رضا الناس غاية لا تدرك فكل ما يرضى به فريق يسخط به فريق ورضا بعضهم في سخط بعضهم ، ومن طلب رضاهم في سخط الله سخط الله عليه ، وأسخطهم أيضا عليه .
(بيان دواء الرياء وطريق معالجة القلب فيه) *
(قد عرفت مما سبق أن الرياء محبط للأعمال، وسبب للمقت عند الله، وأنه من كبار المهلكات، وما هذا وصفه فجدير بالتشمير عن ساق الجد في إزالته ولو بالمجاهدة) والرياضة وتهذيب النفس (وتحمل المشاق) منها (فلا شفاء إلا في شرب الأدوية المرة البشعة) الكريهة الطعم (وهذه مجاهدة يضطر إليها العباد كلهم؛ إذ الصبي يخلق ضعيف العقل، و) فاقد (التمييز، ممتد العين إلى الخلق، كثير الطمع فيهم، فيرى الناس يتصنع بعضهم لبعض فيغلب عليه حب التصنع بالضرورة، ويرسخ ذلك في نفسه) ويثبت (وإنما يشعر بكون ذلك مهلكا بعد كمال عقله) وقد ذكر في كتاب رياضة النفس (وقد انغرس الرياء في قلبه، وترسخ فيه، فلا يقدر على دفعه إلا بمجاهدة شديدة ومكابدة) مديدة (لقوة الشهوات) لكونها تولد معه (فلا ينفك أحد [ ص: 290 ] عن هذه الحاجة إلى هذه المجاهدة، ولكنها تشق أولا وتخف آخرا) كما هو شأن كل مجاهدة (وفي علاجه مقامان: أحدهما: قطع عروقه وأصوله التي منها انشعابه) وتولده. (والثاني: دفع ما يخطر منه في الحال .
(وقال nindex.php?page=showalam&ids=10ابن مسعود) رضي الله عنه: ("إذا التقى الصفان نزلت الملائكة فكتبوا الناس على مراتبهم: فلان يقاتل للذكر، وفلان يقاتل للملك" إشارة إلى الطمع في الدنيا .
وقال nindex.php?page=showalam&ids=2عمر) رضي الله عنه: (يقولون: فلان شهيد، ولعله يكون قد ملأ دفتي راحلته ورقا) بكسر الراء أي: فضة .
(وقال صلى الله عليه وسلم: "من غزا) وهو (لا يبغي) في غزواته (إلا عقالا) بالكسر، الحبل الذي يربط به البعير (فله ما نوى") رواه nindex.php?page=showalam&ids=12251أحمد، nindex.php?page=showalam&ids=14274والدارمي، nindex.php?page=showalam&ids=15397والنسائي، والروياني، nindex.php?page=showalam&ids=13053وابن حبان، nindex.php?page=showalam&ids=14687والطبراني، nindex.php?page=showalam&ids=14070والحاكم وصححه، nindex.php?page=showalam&ids=13933والبيهقي، nindex.php?page=showalam&ids=14679والضياء، من طريق يحيى بن الوليد بن عبادة بن الصامت، عن nindex.php?page=showalam&ids=63عبادة بن الصامت، وقد تقدم .
(فهذا إشارة إلى الطمع، وقد لا يشتهي الحمد، ولا يطمع فيه، ولكن يحذر من ألم الذم، كالتجمل بين الأسخياء) يراهم (وهم يتصدقون بالمال الكثير فإنه يتصدق بالقليل؛ كيلا يبخل، وهو ليس بطامع في الحمد، وقد سبقه في الحمد غيره، وكالجبان بين الشجعان، لا يفر من الزحف؛ خوفا من الذم، وهو لا يطمع في الحمد، وقد هجم غيره على صف القتال، ولكن إذا أيس من الحمد كره الذم، وكالرجل بين قوم يصلون جميع الليل، فيصلي ركعات معدودة؛ كيلا يذم بالكسل، وهو لا يطمع في الحمد، وقد يقدر الإنسان على الصبر عن لذة الحمد ولا يقدر على الصبر على ألم الذم؛ ولذلك قد يترك السؤال عن علم ما هو محتاج إليه؛ خيفة من أن يذم بالجهل، ويفتي بغير علم، وقد يدعي العلم بالحديث وهو به جاهل) لا يدري من فنونه شيئا .
(كل ذلك حذرا من الذم، فهذه الأمور الثلاثة هي التي تحرك المرائي إلى الرياء، وعلاجه ما ذكرناه في الشطر الأول من الكتاب على الجملة، ولكنا نذكر الآن ما يخص الرياء وليس بخفي) على البصير .
(إن الإنسان إنما يقصد الشيء ويرغب فيه؛ لظنه أنه خير له، ونافع ولذيذ، إما في الحال وإما في المآل، فإن علم أنه لذيذ في الحال ولكنه ضار في المآل يسهل عليه قطع الرغبة عنه، كمن يعلم أن العسل [ ص: 291 ] لذيذ ولكنه إذا بان له أن فيه سما) قاتلا (أعرض عنه) وتركه .
(وكذلك طريق قطع هذه الرغبة أن يعلم ما فيها من المضرة. ومهما عرف العبد مضرة الرياء، وما يفوته من صلاح قلبه، وما يحرم عنه في الحال من التوفيق، وفي الآخرة من المنزلة عند الله، وما يتعرض له من العقاب العظيم عند الله، والمقت الشديد والخزي الظاهر؛ حيث ينادى على رؤوس العباد) يوم القيامة (يا فاجر، يا غادر، يا مرائي) كما رواه nindex.php?page=showalam&ids=12455ابن أبي الدنيا في الإخلاص من رواية جبلة اليحصبي، عن رجل من الصحابة لم يسم، بزيادة: "يا خاسر، يا كافر" بدون قوله: "يا مرائي" وقد تقدم قريبا .
(أما استحييت إذ اشتريت بطاعة الله عرض الدنيا، وراقبت قلوب العباد، واستهزأت بطاعة الله تعالى، وتحببت إلى العباد بالتبغض إلى الله، وتزينت لهم بالشين عند الله، وتقربت إليهم بالبعد من الله، وتحمدت إليهم بالتذمم عند الله، وطلبت رضاهم بالتعرض لسخط الله، أما كان أحد أهون عليك من الله؟!) كل ذلك من مخاطبة الرب لعبده (فمهما كان تفكر العبد في هذا الخزي، وقابل ما يحصل له من العباد، و) من (التزين لهم في الدنيا بما يفوته في الآخرة، وما يحبط عمله من ثواب الأعمال، مع أن العمل الواحد ربما كان يترجح به ميزان حسناته لو أخلص، فإذا أفسده الرياء حول إلى كفة السيئات، فيرجح به، ويهوى) أي: يسقط (إلى النار، فلو لم يكن في الرياء إلا إحباط عبادة واحدة لكان ذلك كافيا في معرفة ضرره، وإن كان مع ذلك سائر حسناته راجحة فقد كان ينال بهذه الحسنة علو الرتبة عند الله في زمرة النبيين والصديقين، وقد حط عنهم بسبب الرياء ورد إلى صف النعال) أي: في آخر الصف حيث تخلع النعال (من مراتب الأولياء، هذا مع ما يعرض له في الدنيا من تشتيت الهم) أي: تفريقه (بسبب ملاحظة قلوب الخلق؛ فإن رضا الناس غاية لا تدرك) .
روى nindex.php?page=showalam&ids=14228الخطابي في العزلة من حديث أكتم بن صيفي أنه قال: "رضا الناس غاية لا تدرك، ولا يكره سخط من رضاه الجور". ومن طريق nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي أنه قال nindex.php?page=showalam&ids=17418ليونس بن عبد الأعلى: "يا أبا إسحاق، رضا الناس غاية لا تدرك، ليس إلى السلامة من الناس سبيل، فانظر ما فيه صلاح نفسك، ودع الناس وما هم فيه" .