فالذي يفسق ولا يبالي أن يظهر فسقه للناس جمع إلى الفسق والتهتك والوقاحة وفقد الحياء ، فهو أشد حالا ممن يستتر ويستحيي . إلا أن الحياء ممتزج بالرياء ، ومشتبه به اشتباها عظيما ، قل من يتفطن له ، ويدعي كل مراء أنه مستحي ، وأن سبب تحسينه العبادات هو الحياء من الناس ، وذلك كذب ، بل الحياء خلق ينبعث من الطبع الكريم وتهيج عقبه داعية الرياء وداعية الإخلاص ، ويتصور أن يخلص معه ، ويتصور أن يرائي معه .
وبيانه أن الرجل يطلب من صديق له قرضا ونفسه لا تسخو بإقراضه ، إلا أنه يستحي من رده وعلم أنه لو راسله على لسان غيره لكان لا يستحيي ، ولا يقرض رياء ، ولا لطلب الثواب ، فله عند ذلك أحوال أحدها : أن يشافه بالرد الصريح ، ولا يبالي ، فينسب إلى قلة الحياء ، وهذا فعل من لا حياء له .
فإن المستحيي إما أن يتعلل أو يقرض .
فإن أعطي فيتصور له ثلاثة أحوال ،
أحدها : أن يمزج الرياء بالحياء بأن يهيج الحياء فيقبح عنده الرد ، فيهيج خاطر الرياء ، ويقول : ينبغي أن تعطي ؛ حتى يثنى عليك ، ويحمدك ، وينشر اسمك بالسخاء ، أو : ينبغي أن تعطي ؛ حتى لا يذمك ، ولا ينسبك إلى البخل .
فإذا أعطى فقد أعطى بالرياء ، وكان المحرك للرياء هو هيجان الحياء .
الثاني : أن يتعذر عليه الرد بالحياء ، ويبقى في نفسه البخل ، فيتعذر الإعطاء ، فيهيج داعي الإخلاص ، ويقول له : إن الصدقة بواحدة والقرض بثمان عشرة ففيه أجر عظيم ، وإدخال سرور على قلب صديق ، وذلك محمود عند الله تعالى ، فتسخو النفس بالإعطاء لذلك ، فهذا مخلص هيج الحياء إخلاصه .
الثالث : أن لا يكون له رغبة في الثواب ولا خوف من مذمته ، ولا حب لمحمدته ؛ لأنه لو طلبه مراسلة لكان لا يعطيه فأعطاه ، بمحض الحياء ، وهو ما يجده في قلبه من ألم الحياء ، ولولا الحياء لرده ، ولو جاءه من لا يستحي منه من الأجانب أو الأراذل لكان يرده ، وإن كثر الحمد والثواب فيه . فهذا مجرد الحياء ، ولا يكون هذا إلا في القبائح ، كالبخل ومقارفة الذنوب .
والمرائي يستحي من المباحات أيضا ، حتى إنه يرى مستعجلا في المشي ، فيعود إلى الهدوء أو ضاحكا فيرجع إلى الانقباض ، ويزعم أن ذلك حياء ، وهو عين الرياء .
وقد قيل : إن بعض الحياء ضعف ، وهو صحيح ، والمراد به الحياء مما ليس بقبيح ، كالحياء من وعظ الناس ، وإمامة الناس في الصلاة ، وهو في الصبيان والنساء محمود ، وفي العقلاء غير محمود .
وقد تشاهد معصية من شيخ فتستحي من شيبته أن تنكر عليه ؛ لأن من إجلال الله إجلال ذي الشيبة المسلم وهذا الحياء حسن ، وأحسن منه أن يستحي من الله ، فلا تضيع الأمر بالمعروف ، فالقوي يؤثر الحياء من الله على الحياء من الناس ، والضعيف قد لا يقدر عليه فهذه هي الأسباب التي يجوز لأجلها ستر القبائح والذنوب .
الثامن : أن يخاف من ظهور ذنبه أن يستجرئ عليه غيره ويقتدى ، به ، وهذه العلة الواحدة فقط هي الجارية في إظهار الطاعة ، وهو القدوة ، ويختص ذلك بالأئمة ، أو بمن يقتدى به ، وبهذه العلة ينبغي أيضا أن يخفي العاصي أيضا معصيته من أهله وولده ؛ لأنهم يتعلمون منه .
ففي ستر الذنوب هذه الأعذار الثمانية ، وليس في إظهار الطاعة عذر إلا هذا العذر الواحد ، ومهما قصد بستر المعصية أن يخيل إلى الناس أنه ورع كان مرائيا ، كما إذا قصد ذلك بإظهار الطاعة .
إلا أن الحياء ممزوج بالرياء، ومشتبه به اشتباها عظيما، قل من يتفطن له، ويدعي كل مراء أنه مستح، وأن سبب تحسينه العبادات هو الحياء من الناس، وذلك كذب، بل الحياء خلق ينبعث من الطبع الكريم) .
ونقل nindex.php?page=showalam&ids=12850القشيري في الرسالة عن nindex.php?page=showalam&ids=14021الجنيد -رحمه الله تعالى- قال: "الحياء رؤية الآلاء، ورؤية التقصير، فتولد بينهما حالة تسمى الحياء" .
(ويهيج عقيبه داعية الرياء وداعية الإخلاص، ويتصور أن يخلص معه، ويتصور أن يرائي معه، وبيانه أن الرجل يطلب من صديق له قرضا ونفسه لا تسخو بإقراضه، إلا أنه يستحيي من رده) بلا إعطاء (وعلم أنه لو راسله على لسان غيره لكان لا يستحيي، ولا يقرض رياء، ولا لطلب الثواب، فله عند ذلك أحوال:
إحداها: أن يشافه) أي: يواجه (بالرد الصريح، ولا يبالي، فينسب إلى قلة الحياء، وهذا فعل من لا حياء له، فإن المستحيي) لا يخلو (إما أن يتعلل) أي: يعتذر ويتعلق بذكر علة مانعة له من الإقراض (أو يقرض) في الحال (فإن أعطى فيتصور له ثلاثة أحوال:
إحداها: أن يمتزج الرياء بالحياء بأن يهيج الحياء فيقبح عنده الرد، فيهيج خاطر الرياء، ويقول: ينبغي أن تعطي؛ حتى يثنى عليك، ويحمدك، وينشر اسمك بالسخاء، أو: ينبغي أن تعطي؛ حتى لا يذمك، ولا ينسبك إلى البخل، فإذا أعطى فقد أعطى بالرياء، وكان المحرك للرياء هو هيجان الحياء) .
الحالة (الثانية: أن يتعذر عليه الرد بالحياء، ويبقى في نفسه البخل، فيتعذر الإعطاء، فيهيج باعث الإخلاص، ويقول: إن الصدقة بواحدة والقرض بثمانية عشر) كما ورد ذلك في الخبر (ففيه أجر عظيم، وإدخال سرور على قلب صديق، وذلك محمود عند الله تعالى، فتسخو النفس بالإعطاء لذلك، فهذا مخلص هيج الحياء إخلاصه) .
الحالة (الثالثة: أن لا تكون له رغبة في الثواب ولا خوف من مذمته، ولا حب لمحمدته؛ لأنه لو طلبه مراسلة لكان لا يعطيه، فإعطاؤه بمحض الحياء، وهو ما يجده في قلبه من ألم الحياء، ولولا الحياء لرده، ولو جاءه من لا يستحيي منه من الأجانب والأراذل لكان يرده، وإن كثر الحمد [ ص: 309 ] والثواب فيه. فهذا مجرد الحياء، ولا يكون هذا إلا في القبائح، كالبخل ومقارفة الذنوب) أي: ملابستها .
(والمرائي يستحيي من المباحات أيضا، حتى إنه يرى مستعجلا في المشي، فيعود إلى الهدوء) أي: السكون (أو) يرى (ضاحكا فيرجع إلى الانقباض، ويزعم أن ذلك حياء، وهو عين الرياء، وقد قيل: إن بعض الحياء ضعف، وهو) قول (صحيح، والمراد به الحياء مما ليس بقبيح، كالحياء من وعظ الناس، وإمامة الناس في الصلاة، وهو في النساء والصبيان محمود، وفي العقلاء) البالغين (غير محمود، وقد تشاهد معصية من شيخ فيستحيى من شيبته أن ينكر عليه؛ لأن من إجلال الله إجلال ذي الشيبة المسلم) كما ورد في الخبر: nindex.php?page=hadith&LINKID=12152 "إن من إجلال الله إكرام ذي الشيبة المسلم".
رواه nindex.php?page=showalam&ids=16418ابن المبارك، nindex.php?page=showalam&ids=12508وابن أبي شيبة، nindex.php?page=showalam&ids=11998وأبو داود، nindex.php?page=showalam&ids=14687والطبراني، nindex.php?page=showalam&ids=13933والبيهقي، nindex.php?page=showalam&ids=14203والخرائطي في مكارم الأخلاق، من حديث nindex.php?page=showalam&ids=36جابر: nindex.php?page=hadith&LINKID=912505 "إن من إكرام جلال الله إكرام ذي الشيبة المسلم".
وقال النووي في شرح nindex.php?page=showalam&ids=17080مسلم: وأما كون الحياء خيرا كله، ولا يأتي إلا بخير، فقد يشكل على بعض الناس من حيث إن صاحب الحياء قد يستحيي أن يواجه بالحق من يجله، فيترك أمره بالمعروف ونهيه عن المنكر، وقد يحمل على الإضلال ببعض الحقوق، وغير ذلك مما هو معروف في العادة .
قال: وجواب هذا ما أجاب به جماعة من الأئمة، منهم الشيخ nindex.php?page=showalam&ids=12795ابن الصلاح: إن هذا المانع الذي ذكرناه ليس الحياء حقيقة، بل هو عجز وخور ومهانة، وإنما التسمية حياء من إطلاقهم، يعني: أهل العرف أطلقوه مجازا لمشابهته للحياء الحقيقي، وإنما حقيقة الحياء: خلق يبعث على ترك القبيح، ويمنع من التقصير في حق ذي الحق. والله أعلم .
(فهذه الأسباب هي التي يجوز لأجلها ستر القبائح والذنوب) وقد ذكر المصنف منها ستة، ولم يذكر الوجه السابع، وتقدم له في أول الكلام أنها ثمانية أوجه، وقد راجعت غالب نسخ المتن فوجدت الوجه السابع ساقطا فيها، فانظر ذلك .
الوجه (الثامن: أن يخاف من ظهور ذنبه أن يستجرئ عليه غيره، ويقتدى به، وهذه العلة الواحدة فقط هي الجارية في إظهار الطاعة، وهو القدوة، ويختص ذلك بالأئمة، أو بمن يقتدى به، وبهذه العلة ينبغي أن يخفي العاصي أيضا معصيته من أهله وولده؛ لأنهم يتعلمون منه) إذا اطلعوا عليها منه .
(ففي ستر الذنوب هذه الأعذار الثمانية، وليس في إظهار الطاعة عذر إلا هذا العذر الواحد، ومهما قصد ستر المعصية أن يخيل إلى الناس أنه ورع كان مرائيا، كما إذا قصد ذلك بإظهار الطاعة) كلاهما على حد سواء .