وكذلك العجب بالسكوت المباح محذور ، فهو عدول عن مباح إلى مباح حذرا من العجب .
فأما الكلام الحق المندوب إليه فلم ينص عليه ، على أن الآفة مما تعظم في الكلام ، فهو واقع في القسم الثاني وإنما كلامنا في العبادات الخاصة ببدن العبد مما لا يتعلق بالناس ، ولا تعظم فيه الآفات ، ثم كلام الحسن في تركهم البكاء وإماطة الأذى لخوف الشهرة ربما كان حكاية أحوال الضعفاء الذين لا يعرفون الأفضل ، ولا يدركون هذه الدقائق ، وإنما ذكره تخويفا للناس من آفة الشهرة وزجرا من ؛ طلبها .
القسم الثاني : ما يتعلق بالخلق ، وتعظم فيه الآفات والأخطار ، وأعظمها الخلافة ثم القضاء ثم التذكير والتدريس والفتوى ، ثم إنفاق المال .
فالإمارة والخلافة من أعظم العبادات ، ولم يزل المتقون يتركونها ويحترزون منها ، ويهربون من تقلدها ؛ وذلك لما فيه من عظم الخطر ؛ إذ تتحرك بها الصفات الباطنة ، ويغلب النفس حب الجاه ، ولذة الاستيلاء ، ونفاذ الأمر ، وهو أعظم ملاذ الدنيا ، فإذا صارت الولاية محبوبة كان الوالي ساعيا في حظ نفسه ويوشك ، أن يتبع هواه ، فيمتنع من كل ما يقدح في جاهه وولايته ، وإن كان حقا ويقدم على ما يزيد في مكانته وإن كان باطلا ، وعند ذلك يهلك ، ويكون يوم من سلطان جائر شرا من فسق ستين سنة ، بمفهوم الحديث الذي ذكرناه .
رواه nindex.php?page=showalam&ids=249معقل بن يسار وولاه عمر ولاية فقال : « يا أمير المؤمنين ، أشر علي قال : اجلس ، واكتم علي .
». وروى الحسن أن « رجلا ولاه النبي صلى الله عليه وسلم فقال للنبي : خر لي قال : اجلس » . .
وكذلك حديث عبد الرحمن بن سمرة إذ قال له النبي صلى الله عليه وسلم : « يا عبد الرحمن لا تسأل الإمارة ؛ فإنك إن أوتيتها من غير مسألة أعنت عليها ، وإن أوتيتها عن مسألة وكلت إليها » . .
وقال nindex.php?page=showalam&ids=1أبو بكر رضي الله عنه لرافع بن عمر لا تأمر على اثنين ، ثم ولي هو الخلافة فقام بها ، فقال له رافع : ألم تقل لي : لا تأمر على اثنين ، وأنت قد وليت أمر أمة محمد ، صلى الله عليه وسلم ! فقال : بلى ، وأنا أقول لك ذلك ، فمن لم يعدل فيها فعليه بهلة الله يعني : لعنة الله .
ولعل القليل البصيرة يرى ما ورد من فضل الإمارة مع ما ورد من النهي عنها متناقضا ، وليس كذلك ، بل الحق فيه أن الخواص الأقوياء في الدين لا ينبغي أن يمتنعوا من تقلد الولايات وأن الضعفاء لا ينبغي أن يدوروا بها فيهلكوا وأعني بالقوي الذي لا تميله الدنيا ، ولا يستفزه الطمع ولا تأخذه في الله لومة لائم ، وهم الذين سقط الخلق عن أعينهم وزهدوا في الدنيا ، وتبرموا بها ، وبمخالطة الخلق وقهروا أنفسهم وملكوها وقمعوا الشيطان فأيس منهم فهؤلاء لا يحركهم إلا الحق ، ولا يسكنهم إلا الحق ، ولو زهقت فيهم أرواحهم ، فهم أهل نيل الفضل في الإمارة والخلافة ، ومن علم أنه ليس بهذه الصفة فيحرم عليه الخوض في الولايات .
ومن جرب نفسه فرآها صابرة على الحق كافة عن الشهوات في غير الولايات ولكن خاف عليها أن تتغير إذا ذاقت لذة الولاية ، وأن تستحلي الجاه ، وتستلذ نفاذ الأمر ، فتكره العزل فيداهن ؛ خيفة من العزل فهذا قد اختلف العلماء في أنه هل يلزمه الهرب من تقلد الولاية فقال قائلون : لا يجب ؛ لأن هذا خوف أمر في المستقبل وهو في الحال لم يعهد نفسه إلا قوية في ملازمة الحق ، وترك لذات النفس ، والصحيح أن عليه الاحتراز ؛ لأن النفس خداعة مدعية للحق ، واعدة بالخير ، فلو وعدت بالخير جزما لكان يخاف عليها أن تتغير عند الولاية ، فكيف إذا أظهرت التردد .
والامتناع عن قبول الولاية ؟! أهون من العزل بعد الشروع فالعزل ، مؤلم ، وهو كما قيل العزل : طلاق الرجال فإذا شرع لا تسمح نفسه بالعزل ، وتميل نفسه إلى المداهنة ، وإهمال الحق وتهوي ، به في قعر جهنم ولا يستطيع النزوع منه إلى الموت إلا أن يعزل قهرا وكان فيه عذاب عاجل على كل محب للولاية .
(وكذلك العجب في السكوت المباح محذور، فهو عدول من مباح إلى مباح حذرا من) الوقوع [ ص: 313 ] في (العجب، فأما الكلام الحق المندوب إليه فلم ينص عليه، على أن الآفة مما تعظم في الكلام، فهو واقع في القسم الثاني) الآتي ذكره بعد هذا .
(وإنما كلامنا في العبادات الخاصة ببدن العبد مما لا يتعلق بالناس، ولا تعظم فيه الآفات، ثم كلام الحسن) البصري رحمه الله تعالى (في تركهم البكاء وإماطة الأذى لخوف الشهرة ربما كان حكاية أحوال الضعفاء الذين لا يعرفون الأفضل، ولا يدركون هذه الدقائق، وإنما ذكره تخويفا للناس من آفة الشهرة؛ زجرا عن طلبها .
القسم الثاني: ما يتعلق به الخلق، وتعظم فيه الآفات والأخطار، وأعظمها الخلافة) أي: الولاية العامة (ثم القضاء) وهي الولاية الخاصة (ثم التذكير) والوعظ على العامة (ثم التدريس) للعلوم الشرعية (والفتوى، ثم إنفاق الأموال) على الناس .
(فالإمارة والخلافة من أعظم العبادة، ولم يزل المتقون يحترزون منها، ويهربون من تقلدها؛ وذلك لما فيها من عظم الخطر؛ إذ تتحرك به الصفات الباطنة، ويغلب على النفس حب الجاه، ولذة الاستيلاء، ونفاذ الأمر، وهو أعظم ملاذ الدنيا، فإذا صارت الولاية محبوبة كان الوالي ساعيا في حظ نفسه، وأوشك أن يتبع هواه، فيمتنع من كل ما يقدح في جاهه وولايته، وإن كان حقا ويقدم على ما يزيد من مكانته) أي: منزلته وقدره (وإن كان باطلا، وعند ذلك يهلك، ويكون يوم من سلطان جائر شرا من فسق ستين سنة، بمفهوم الحديث الذي ذكرناه) وهو حديث nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس (ولهذا الخطر العظيم كان nindex.php?page=showalam&ids=2عمر) رضي الله عنه (يقول: من يأخذها) أي الإمارة (بما فيها؟!) أي: من الأخطار .
وروى nindex.php?page=showalam&ids=12455ابن أبي الدنيا في مواعظ الخلفاء بلفظ: "فقال nindex.php?page=showalam&ids=2عمر: واعمراه! من يتولاها بما فيها؟! وقد تقدم للمصنف في كتاب الأمر بالمعروف .
وروى nindex.php?page=showalam&ids=12181أبو نعيم في الحلية من طريق nindex.php?page=showalam&ids=13760الأوزاعي، عن nindex.php?page=showalam&ids=16052سماك، عن nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس قال: "لما طعن [ ص: 314 ] nindex.php?page=showalam&ids=2عمر دخلت عليه فقلت: أبشر أمير المؤمنين؛ فإن الله قد مصر بك الأمصار، ودفع بك النفاق، وأفشى بك الرزقة، فقال: أفي الإمارة تثني علي يا nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس، فقلت: وفي غيرها، فقال: والذي نفسي بيده لوددت أني خرجت منها كما دخلت فيها لا أجر ولا وزر".
قال العراقي: رواه nindex.php?page=showalam&ids=12251أحمد من حديث nindex.php?page=showalam&ids=63عبادة بن الصامت، ورواه nindex.php?page=showalam&ids=12251أحمد nindex.php?page=showalam&ids=13863والبزار من رواية رجل لم يسم، عن nindex.php?page=showalam&ids=228سعد بن عبادة، وفيهما يزيد بن زياد، متكلم فيه .
ورواه nindex.php?page=showalam&ids=12251أحمد nindex.php?page=showalam&ids=13863والبزار nindex.php?page=showalam&ids=12201وأبو يعلى nindex.php?page=showalam&ids=14687والطبراني في الأوسط من حديث nindex.php?page=showalam&ids=3أبي هريرة، ورواه nindex.php?page=showalam&ids=13863البزار nindex.php?page=showalam&ids=14687والطبراني من حديث بريرة، nindex.php?page=showalam&ids=14687والطبراني في الأوسط من حديث nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس وثوبان، وله من حديث nindex.php?page=showalam&ids=4أبي الدرداء: nindex.php?page=hadith&LINKID=104010 "ما من والي ثلاثة إلا لقي الله مغلولة يمينه" الحديث، وقد عزا المصنف هذا الحديث لرواية nindex.php?page=showalam&ids=249معقل بن يسار، والمعروف من حديث nindex.php?page=showalam&ids=249معقل بن يسار: nindex.php?page=hadith&LINKID=656617 "ما من عبد يسترعيه الله رعية لم يحطها بنصحه إلا لم يرح رائحة الجنة" متفق عليه. انتهى .
(وولاه) أي: nindex.php?page=showalam&ids=249معقل بن يسار nindex.php?page=showalam&ids=2 (عمر) رضي الله عنه (ولاية) قبل ولاية البصرة (فقال: "يا أمير المؤمنين، أشر علي، فقال: اجلس، واكتم علي" .
قال العراقي: رواه nindex.php?page=showalam&ids=14687الطبراني موصولا من حديث عصمة، هو ابن مالك، وفيه الفضل بن المختار، أحاديثه منكرة، يحدث بالأباطيل .
قال أبو حاتم: ورواه أيضا من حديث nindex.php?page=showalam&ids=12ابن عمر بلفظ: nindex.php?page=hadith&LINKID=937799 "الزم بيتك" وفيه الفرات بن أبي الفرات، ضعفه nindex.php?page=showalam&ids=17336ابن معين، nindex.php?page=showalam&ids=13357وابن عدي، وقال أبو حاتم: صدوق. اهـ .
وقال الحافظ في الإصابة: عصمة بن مالك الخطمي له أحاديث، أخرجها nindex.php?page=showalam&ids=14269الدارقطني nindex.php?page=showalam&ids=14687والطبراني وغيرهما، مدارها على الفضل بن المختار، وهو ضعيف جدا .
(وقال أبو بكر) رضي الله عنه (لرافع بن عمر) الطائي: (لا تأمر على اثنين، ثم ولي هو الخلافة، فقال له رافع: ألم تقل لي: لا تأمر على اثنين، وأنت قد وليت أمر أمة محمد، صلى الله عليه وسلم! فقال: بلى، وأنا أقول لك ذلك، فمن لم يعدل فعليه بهلة الله، أي: لعنة الله) .
روى nindex.php?page=showalam&ids=16418ابن المبارك في الزهد، عن رافع الطائي قال: "صحبت أبا [ ص: 315 ] بكر في غزاة، فلما قفلنا قلت: أوصني، قال: أتم الصلاة المكتوبة" فساق الحديث، وفيه: "ولا تكونن أميرا" ثم قال: "إن هذه الإمارة التي ترى اليوم يسير، وقد أوشك أن تفشو وتكثر حتى ينالها من ليس لها بأهل، وإنه من يكن أميرا فإنه من أطول الناس حسابا، وأغلظه عذابا" الحديث .
وروى الدينوري في المجالسة عن رافع الطائي قال: خطب nindex.php?page=showalam&ids=1أبو بكر -رضي الله عنه- فذكر المسلمين، فقال: "من ظلم أحدا فقد أخفر ذمة الله، ومن ولي من أمور المسلمين شيئا فلم يعظهم كتاب الله فعليه بهلة الله".
(ولعل القليل البصيرة يرى ما ورد في فضل الإمارة مع ما ورد من النهي عنها متناقضا، وليس كذلك، بل الحق فيه أن الخواص الأقوياء في الدين لا ينبغي أن يمتنعوا من تقلد الولايات) لقوتهم وصلابتهم في الدين (وأن الضعفاء) في المعرفة (لا ينبغي أن يدوروا بها فيهلكوا) لعدم تحملهم لذلك، فيكون سببا لهلاكهم .
(وأعني بالقوي الذي لا تميله الدنيا، ولا يستفزه الطمع) أي: لا يحركه ولا يحمله (ولا يأخذه في الله لومة لائم، وهم الذين سقط الخلق في أعينهم) فلم تكن لهم منزلة عندهم (وزهدوا في الدنيا، وتبرموا بها، وبمخالطة الخلق) أي: ضجروا (وقهروا أنفسهم) فأماتوها وملكوها وقمعوا الشيطان فأيس منهم، فلا يحول حول حماهم .
(فهؤلاء لا يحركهم إلا الحق، ولا يسكنهم إلا الحق، ولو زهقت فيه أرواحهم، فهم أهل نيل الفضل في الإمارة والخلافة، ومن علم أنه ليس بهذه الصفة فيحرم عليه الخوض في الولايات) والدوران لطلبها (ومن جرب نفسه فرآها صابرة على الحق كافة عن الشهوات في غير الولاية لكن خاف عليها أن تتغير) عن حالتها الأولى (إذا ذاقت لذة الولاية، وأن تستحلي الجاه، وتستلذ نفاذ الأمر فيه، فتكره العزل) عنها (فتداهن؛ خيفة من العزل - فهذا قد اختلف العلماء في أنه هل يلزمه الهرب من تقلد الولاية) أم لا؟
(فقال قائلون: لا يجب؛ لأن هذا خوف أمر في المستقبل) أي: فيما سيعرض (وهو في الحال لم يعهد نفسه إلا قويا في ملازمة الحق، وترك لذات النفس، والصحيح أن عليه الاحتراز؛ لأن النفس خداعة مدعية للحق، واعدة بالخير، فلو) أنها (وعدت بالخير جزما لكان يخاف عليها أن تتغير عند الولاية، فكيف إذا أظهرت التردد والامتناع عن قبول الولاية؟! أهون من العزل بعد الشروع، والعزل مؤلم، وهو كما قيل: طلاق الرجال) .
وسبب كون العزل مؤلما نفور النفس عن مفارقة ما ألفته من لذة الاستيلاء، وملك القلوب، ونفاذ الأمر .
(فإذا شرع) في الولاية (لا تسمح نفسه بالعزل، وتميل نفسه إلى المداهنة، وإهمال الحق، ويهوي به في قعر جهنم) أي: يسقط فيه (ولا يستطيع النزوع منه إلى الموت) برضا نفسه (إلا أن يعزل قهرا) على نفسه (وكان فيه عذاب عاجل على كل محب للولاية .