بيان ما يصح من نشاط العبد للعبادة بسبب رؤية الخلق وما لا يصح .
اعلم أن الرجل قد يبيت مع القوم في موضع فيقومون للتهجد أو يقوم بعضهم فيصلون الليل كله أو بعضه وهو ممن يقوم في بيته ساعة قريبة ، فإذا رآهم انبعث نشاطه للموافقة حتى يزيد على ما كان يعتاده ، أو يصلي مع أنه كان لا يعتاد الصلاة بالليل أصلا ، وكذلك قد يقع في موضع يصوم فيه أهل الموضع ، فينبعث له نشاط في الصوم ، ولولاهم لما انبعث هذا النشاط فهذا ربما يظن أنه رياء ، وأن الواجب ترك الموافقة ، وليس كذلك على الإطلاق ، بل له تفصيل ؛ لأن كل مؤمن راغب في عبادة الله تعالى ، وفي قيام الليل ، وصيام النهار ، ولكن قد تعوقه العوائق ويمنعه الاشتغال ، ويغلبه التمكن من الشهوات ، أو تستهويه الغفلة ، فربما تكون مشاهدة الغير سبب زوال الغفلة ، أو تندفع العوائق والأشغال في بعض المواضع ، فينبعث له النشاط ، فقد يكون الرجل في منزله فتقطعه الأسباب عن التهجد ، مثل تمكنه من النوم على فراش وثير أو تمكنه من التمتع بزوجته ، أو المحادثة مع أهله وأقاربه ، أو الاشتغال بأولاده ، أو مطالعة حساب له مع معامليه فإذا وقع في منزل غريب اندفعت عنه هذه الشواغل التي تفتر رغبته عن الخير ، وحصلت له أسباب باعثة على الخير كمشاهدته إياهم ، وقد أقبلوا على الله وأعرضوا عن الدنيا ، فإنه ينظر إليهم فينافسهم ، ويشق عليه أن يسبقوه بطاعة الله ، فتتحرك داعيته للدين لا للرياء أو ربما ، يفارقه النوم لاستنكاره الموضع أو سبب آخر فيغتنم زوال النوم وفي منزله ربما يغلبه النوم ، وربما ينضاف إليه أنه في منزله على الدوام ، والنفس لا تسمح بالتهجد دائما وتسمح ، بالتهجد وقتا قليلا ، فيكون ذلك سبب هذا النشاط مع اندفاع سائر العوائق ، وقد يعسر عليه الصوم في منزله ومعه أطايب الأطعمة ، ويشق عليه الصبر عنها فإذا أعوزته تلك الأطعمة لم يشق عليه ، فتنبعث داعية الدين للصوم ، فإن الشهوات الحاضرة عوائق ودوافع تغلب باعث الدين ، فإذا سلم منها قوي الباعث .
فهذا وأمثاله من الأسباب يتصور وقوعه ، ويكون السبب فيه مشاهدة الناس ، وكونه معهم ، والشيطان مع ذلك ربما يصد عن العمل ويقول : لا تعمل فإنك تكون مرائيا إذا ؛ كنت لا تعمل في بيتك ، ولا تزد على صلاتك المعتادة . وقد تكون رغبته في الزيادة لأجل رؤيتهم ، وخوفا من ذمهم ، ونسبتهم إياه إلى الكسل ، لا سيما إذا كانوا يظنون به أنه يقوم الليل ، فإن نفسه لا تسمح بأن يسقط من أعينهم ، فيريد أن يحفظ منزلته وعند ذلك قد يقول الشيطان : صل فإنك مخلص ولست تصلي لأجلهم بل لله وإنما كنت لا تصلي كل ليلة لكثرة العوائق وإنما داعيتك لزوال العوائق لا لاطلاعهم .
وهذا أمر مشتبه إلا على ذوي البصائر فإذا عرف أن المحرك هو الرياء فلا ينبغي أن يزيد على ما كان يعتاده ولا ركعة واحدة ؛ لأنه يعصي الله بطلب محمدة الناس بطاعة الله ، وإن كان انبعاثه لدفع العوائق ، وتحرك الغبطة والمنافسة بسبب عبادتهم فليوافق .
وعلامة ذلك أن يعرض على نفسه أنه لو رأى هؤلاء يصلون من حيث لا يرونه بل من وراء حجاب ، وهو في ذلك الموضع بعينه ، هل كانت نفسه تسخو بالصلاة وهم لا يرونه ? فإن سخت نفسه فليصل ؛ فإن باعثه الحق ، وإن كان ذلك يثقل على نفسه لو غاب عن أعينهم فليترك ؛ فإن باعثه الرياء .
وكذلك قد يحضر الإنسان يوم الجمعة في الجامع من نشاط الصلاة ما لا يحضره كل يوم ، ويمكن أن يكون ذلك لحب حمدهم ويمكن أن يكون نشاطه بسبب نشاطهم ، وزوال غفلته بسبب إقبالهم على الله تعالى ، وقد يتحرك بذلك باعث الدين ، ويقارنه نزوع النفس إلى حب الحمد ، فمهما علم أن الغالب على قلبه إرادة الدين فلا ينبغي أن يترك العمل بما يجده من حب الحمد ، بل ينبغي أن يرد ذلك على نفسه بالكراهية ، ويشتغل بالعبادة .
وكذلك قد يبكي جماعة ، فينظر إليهم ، فيحضره البكاء ؛ خوفا من الله تعالى لا من الرياء ، ولو سمع ذلك الكلام وحده لما بكى ، ولكن بكاء الناس يؤثر في ترقيق القلب وقد لا يحضره البكاء فيتباكى تارة رياء وتارة مع الصدق ؛ إذ يخشى على قلبه قساوة القلب حين يبكون ولا تدمع عينه ، فيتباكى تكلفا ، وذلك محمود .
وعلامة الصدق فيه أن يعرض على نفسه أنه لو سمع بكاءهم من حيث لا يرونه هل كان يخاف على نفسه القساوة فيتباكى أم لا ? فإن لم يجد ذلك عند تقدير الاختفاء عن أعينهم فإنما خوفه من أن يقال : إنه قاسي القلب ، فينبغي أن يترك التباكي .
قال لقمان عليه السلام لابنه لا تري الناس أنك تخشى ليكرموك وقلبك فاجر .
(بيان ما يصح من نشاط العبد للعبادة بسبب رؤية الخلق وما لا يصح) *
(اعلم) وفقك الله (أن الرجل قد يبيت مع القوم في موضع فيقومون للتهجد) أي: لصلاة الليل (أو يقوم بعضهم فيصلون الليل كله أو بعضه وهو ممن يقوم في بيته ساعة قريبة، فإذا رآهم انبعث نشاطه للموافقة) معهم في عملهم (حتى يزيد على ما كان يعتاده، أو) أنه (يصلي مع أنه كان لا يعتاد الصلاة بالليل أصلا، وكذلك قد يقع في موضع يصوم فيه أهل) ذلك (الموضع، فينبعث له نشاط في الصوم، ولولاهم لما انبعث هذا النشاط [ ص: 324 ] فهذا ربما يظن أنه رياء، وأن الواجب ترك الموافقة، وليس كذلك على الإطلاق، بل له تفصيل؛ لأن كل مؤمن) فهو (راغب في عبادة الله تعالى، وفي قيام الليل، وصيام النهار، ولكن قد تعوقه العوائق، وتمنعه الأشغال، ويغلبه التمكن من الشهوات، أو تستهويه الغفلة، فربما تكون مشاهدة الغير سبب زوال) تلك (الغفلة، أو تندفع العوائق والأشغال في بعض المواضع، فينبعث له النشاط، فقد يكون الرجل في منزله فتقطعه الأسباب عن التهجد، مثل تمكنه من النوم على فراش وثير) أي: وطيء (أو تمكنه من التمتع بزوجته، أو المحادثة مع أهله وأقاربه، أو الاشتغال بأولاده، أو مطالعة حساب له مع معامليه) أو غير ذلك من الأسباب (فإذا وقع في منزل غريب اندفعت عنه هذه الشواغل التي تفتر) أي: تضعف (رغبته في الخير، وحصلت له أسباب باعثة على الخير لمشاهدته إياهم، وقد أقبلوا على الله) بقلوبهم (وأعرضوا عن الدنيا، فإنه ينظر إليهم فينافسهم، ويشق عليه أن يسبقوه بطاعة الله، فتتحرك دواعيه للدين لا للرياء، وربما يفارقه النوم لاستنكاره الموضع) أو مزايلة الطبع مألوفه (أو بسبب آخر) ككثرة الناموس والبرغوث أو البق (فيغتنم زوال النوم) عنه .
(وفي منزله ربما يغلب عليه النوم، وربما ينضاف إليه أنه في منزله على الدوام، والنفس لا تسمح بالتهجد دائما، وإنما تسمح بالتهجد وقتا قليلا، فيكون ذلك سبب هذا النشاط مع اندفاع سائر العوائق، وقد يعسر الصوم عليه في منزله ومعه أطاييب الأطعمة، ويشق عليه الصبر عنها) مع تمكنه منها (فإذا أعوزته تلك الأطعمة لم يشق عليه، فتنبعث داعية الدين للصوم، فإن للشهوات الحاضرة عوائق) أي: موانع (ودوافع تغلب باعث الدين، فإذا سلم منها قوي الباعث، فهذا وأمثاله من الأسباب يتصور وقوعه، ويكون السبب فيه مشاهدة الناس، وكونه معهم، والشيطان مع ذلك ربما يصد عن العمل) ويمنعه (ويقول: لا تعمل فإنك) إن عملت (تكون مرائيا؛ إذ كنت لا تعمل في بيتك، ولا تزيد على صلاتك المعتادة .
وقد تكون رغبته في الزيادة لأجل رؤيتهم، وخوفا من ذمهم، ونسبتهم إياه إلى الكسل، لا سيما إذا كانوا يظنون به أنه يقوم الليل، فإن نفسه لا تسمح بأن يسقط من أعينهم، فيريد أن يحفظ منزلته) عندهم (وعند ذلك قد يقول له الشيطان: صل فإنك مخلص) لله (ولست تصلي لأجلهم بل لله) عز وجل (وإنما كنت لا تصلي كل ليلة لكثرة العوائق) التي كانت عرضتك (وإنما داعيتك لزوال العوائق لا لاطلاعهم .
وهذا أمر مشتبه) الطرفين (إلا على ذوي البصائر) النافذة (فإذا عرف أن المحرك هو الرياء فلا ينبغي أن يزيد على ما كان يعتاده ولا ركعة واحدة؛ لأنه يعصي الله بطلب محمدة الناس بطاعة الله، وإن كان انبعاثه لدفع العوائق، وتحرك الغبطة والمنافسة بسبب عبادتهم فليوافق، وعلامة ذلك أن يعرض على نفسه أنه لو رأى هؤلاء يصلون من حيث لا يرونه بل من وراء حجاب، وهو في ذلك الموضع بعينه، هل كانت نفسه تسخو بالصلاة وهم لا يرونه؟ فإن سخت [ ص: 325 ] نفسه فليصل؛ فإن باعثه الحق، وإن كان يثقل على نفسه ذلك لو غاب عن أعينهم فليترك؛ فإن باعثه الرياء .
وكذلك قد يحضر الإنسان يوم الجمعة في الجامع من نشاط الصلاة) مع الجماعة (ما لا يحضره كل يوم، ويمكن أن يكون ذلك لحب حمدهم) له (ويمكن أن يكون تحرك نشاطه بسبب نشاطهم، وزوال غفلته بسبب إقبالهم على الله تعالى، وقد يتحرك بذلك باعث الدين، ويقارنه نزوع النفس إلى حب الحمد، فمهما علم أن الغالب على قلبه إرادة الدين فلا ينبغي أن يترك العمل بما يجده من حب الحمد، بل ينبغي أن يرد ذلك على نفسه بالكراهية، ويشتغل بالعبادة .
وكذلك قد تبكي جماعة، فينظر إليهم، فيحضره البكاء؛ خوفا من الله لا من الرياء، ولو سمع ذلك الكلام وحده لما بكى، ولكن بكاء الناس يؤثر في ترقيق القلب) وتليينه (وقد لا يحضره البكاء فيتباكى) أي: يتكلف البكاء (تارة رياء وتارة مع الصدق؛ إذ يخشى على نفسه قساوة القلب حين) رآهم (يبكون ولا تدمع عينه، فيتباكى تكلفا، وذلك محمود .
وعلامة الصدق فيه أن يعرض على نفسه أنه لو سمع بكاءهم من حيث لا يرونه هل كان يخاف على نفسه القساوة فيتباكى أم لا؟ فإن لم يجد ذلك عند تقدير الاختفاء عن أعينهم فإنما خوفه من أن يقال: إنه قاسي القلب، فينبغي أن يترك التباكي، قال لقمان لابنه) : يا بني (لا تري الناس أنك تخشى الله ليكرموك وقلبك فاجر) أي: فإن ذلك رياء ونفاق .