يريد أن يعلم الشيء فيجهله ، ويريد أن يذكر الشيء فينساه ، ويريد أن ينسى الشيء ويغفل عنه فلا يغفل عنه ، ويريد أن يصرف قلبه إلى ما يهمه فيجول في أودية الوساوس والأفكار بالاضطرار ، فلا يملك قلبه قلبه ، ولا نفسه نفسه ويشتهي ، الشيء وربما يكون هلاكه فيه ، ويكره الشيء وربما تكون حياته فيه ، يستلذ الأطعمة وتهلكه وترديه ويستبشع الأدوية وهي تنفعه وتحييه ولا يأمن في لحظة من ليله أو نهاره أن يسلب سمعه وبصره ، وتفلج أعضاؤه ، ويختلس عقله ، ويختطف روحه ويسلب جميع ما يهواه في دنياه ، فهو مضطر ذليل إن ترك بقي ، وإن اختطف فني ، عبد مملوك ، لا يقدر على شيء من نفسه ، ولا شيء من غيره ، فأي شيء أذل منه لو عرف نفسه ؟! وأنى يليق الكبر به لولا جهله فهذا أوسط أحواله فليتأمله .
وأما آخره ومورده فهو الموت ، المشار إليه بقوله تعالى : ثم أماته فأقبره ثم إذا شاء أنشره ومعناه أنه يسلب روحه وسمعه وبصره وعلمه وقدرته وحسه وإدراكه وحركته ، فيعود جمادا كما كان أول مرة ، لا يبقى إلا شكل أعضائه وصورته لا حس فيه ولا حركة ثم يوضع في التراب فيصير جيفة منتنة قذرة ، كما كان في الأول نطفة مذرة ، ثم تبلى أعضاؤه ، وتتفتت أجزاؤه ، وتنخر عظامه ويصير ، رميما رفاتا ويأكل الدود أجزاءه ، فيبتدئ بحدقتيه فيقلعهما وبخديه فيقطعهما ، وبسائر أجزائه ، فيصير روثا في أجواف الديدان ويكون جيفة ، يهرب منه الحيوان ، ويستقذره كل إنسان ويهرب منه ؛ لشدة الإنتان وأحسن أحواله أن يعود إلى ما كان ، فيصير ترابا يعمل منه الكيزان ، ويعمر منه البنيان فيصير ، مفقودا بعد ما أن موجودا .
وصار كأن لم يغن بالأمس حصيدا كما كان في أول أمره أمدا مديدا وليته بقي كذلك ، فما أحسنه لو ترك ترابا .
! لا ، بل يحييه بعد طول البلى ليقاسي شديد البلاء فيخرج من قبره بعد جمع أجزائه المتفرقة ، ويخرج إلى أهوال القيامة فينظر إلى قيامة قائمة ، وسماء مشققة ممزقة وأرض مبدلة وجبال مسيرة ونجوم منكدرة وشمس منكسفة وأحوال مظلمة ، وملائكة غلاظ شداد وجهنم تزفر وجنة ينظر إليها المجرم فيتحسر ويرى صحائف منشورة فيقال له : اقرأ كتابك فيقول : وما هو ? فيقال كان قد وكل بك في حياتك التي كنت تفرح بها وتتكبر بنعيمها ، وتفتخر بأسبابها ملكان رقيبان يكتبان عليك ما كنت تنطق به أو تعمله من قليل وكثير ، ونقير وقطمير وأكل وشرب ، وقيام وقعود ، قد نسيت ذلك وأحصاه الله عليك ، فهلم إلى الحساب ، واستعد للجواب ، أو تساق إلى دار العذاب ، فينقطع قلبه فزعا من هول هذا الخطاب ، قبل أن تنتشر الصحيفة ، ويشاهد ما فيها من مخازيه فإذا شاهده قال يا ويلتنا مال هذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها فهذا آخر أمره ، وهو معنى قوله تعالى : ثم إذا شاء أنشره فما لمن هذا حاله والتكبر والتعظم ، بل ما له وللفرح في لحظة واحدة ، فضلا عن البطر والأشر ؟! فقد ظهر له أول حاله ووسطه ، ولو ظهر آخره والعياذ بالله تعالى ربما اختار أن يكون كلبا أو خنزيرا ليصير مع البهائم ترابا ، ولا يكون إنسانا ، يسمع خطابا ، أو يلقى عذابا وإن كان عند الله مستحقا للنار فالخنزير أشرف منه ، وأطيب ، وأرفع ؛ إذ أوله التراب ، وآخره التراب ، وهو بمعزل عن الحساب والعذاب ، والكلب والخنزير لا يهرب منه الخلق .
ولو رأى أهل الدنيا العبد المذنب في النار لصعقوا من وحشة خلقته ، وقبح صورته ولو وجدوا ريحه لماتوا من نتنه ، ولو وقعت قطرة من شرابه الذي يسقى منه في بحار الدنيا لصارت أنتن من الجيفة ، فمن هذا حاله في العاقبة إلا أن يعفو الله عنه وهو على شك من العفو كيف يفرح ويبطر وكيف يتكبر ويتجبر وكيف يرى نفسه شيئا حتى يعتقد له فضلا ؟! وأي عبد لم يذنب ذنبا استحق به العقوبة إلا أن يعفو الله الكريم بفضله ويجبر الكسر بمنه ، والرجاء منه ذلك ؛ لكرمه وحسن الظن به ولا قوة إلا بالله .
، أرأيت من جنى على بعض الملوك فاستحق بجنايته ضرب ألف سوط ، فحبس إلى السجن ، وهو ينتظر أن يخرج إلى العرض ، وتقام عليه العقوبة على ملأ من الخلق ، وليس يدري أيعفى عنه أم لا ، كيف يكون ذله في السجن أفترى أنه يتكبر على من في السجن وما من عبد مذنب إلا والدنيا سجنه وقد استحق العقوبة من الله تعالى ، ولا يدري كيف يكون آخر أمره ، فيكفيه ذلك حزنا وخوفا ، وإشفاقا ومهانة وذلا .
ومن غريب أحواله أنه (يريد أن يعلم الشيء فيجهله، ويريد أن يذكر الشيء فينساه، ويريد أن ينسى الشيء ويغفل عنه فلا يغفل عنه، ويريد أن يصرف قلبه إلى ما يهمه) ويعنيه (فيجول في أودية الوسواس والأفكار) المختلفة (بالاضطراب، فلا يملك قلبه قلبه، ولا نفسه نفسه، فيشتهي الشيء وربما يكون هلاكه فيه، ويكره الشيء وربما يكون حياته فيه، يستلذ الأطعمة) المختلفة الألوان (فتهلكه وترديه) إما من الإكثار فيها، أو من ضعف المعدة عن تحملها، أو بغير ذلك .
(ويستبشع الأدوية) المرة (وهي تنفعه وتحييه) وهو مع ذلك (لا يأمن) على نفسه (في لحظة من ليله ونهاره أن يسلب سمعه وبصره، وتفلج أعضاؤه، ويختلس عقله، ويختطف روحه) كل ذلك فلتة (ويسلب جميع ما يهواه في دنياه، فهو مضطر ذليل إن ترك بقي، وإن اختطف فني، عبد مملوك، لا يقدر على شيء من) عند (نفسه، ولا على شيء من غيره، فأي شيء أذل منه لو عرف نفسه؟! وأنى يليق الكبر به لولا جهله) وعناده؟! (فهذا أوسط أحواله فيتأمله) ببصيرته؛ حتى ينكشف له ذلك .
(وأما آخره ومورده) الذي يرد عليه (فهو الموت، المشار إليه بقوله تعالى: ثم أماته فأقبره ثم إذا شاء أنشره ومعناه أنه يسلب روحه وسمعه وبصره وعلمه وقدرته وحسه وإدراكه وحركته، فيعود جمادا كما كان أول مرة، لا يبقى) معه (إلا شكل أعضائه وصورته) الظاهرة (لا حس فيه ولا حركة) ثم يدرج في ثياب (ثم يوضع في التراب) ويغلق عليه الباب (فيصير جيفة منتنة قذرة، كما كان في الأول نطفة مذرة، ثم) بعد ذلك (تبلى أعضاؤه، وتتفتت أجزاؤه، وتنخر عظامه، فيصير رميما ورفاتا) وقد رم العظم يرم من باب ضرب: بلي، فهو رميم، والجمع أرماء كدليل وأدلاء [ ص: 392 ] وجاء رمام مثل كريم وكرام، والرفات بالضم العظم المتكسر .
(ويأكل الدود) المتولد منه (أجزاءه، فيبتدئ بحدقتيه) فإنهما أول ما يسيلان على الخدين (فيقلعهما) من موضعهما (وبخديه فيقطعهما، وبسائر أجزائه، فيصير روثا في أجواف الديدان) ومن هنا مخاطبة القبر للإنسان: "أنا بيت الدود" كما في الخبر .
(ويكون جيفة، يهرب منه الحيوان، ويستقذره كل إنسان ويهرب منه؛ لشدة الأنتان) إذ لا نتن أشد من نتن جيفة الإنسان (وأحسن أحواله أن يعود إلى ما كان، فيصير ترابا تعمل منه الكيزان، ويعمر به البنيان، ويصير مفقودا بعدما كان موجودا، وصار كأن لم يغن بالأمس حصيدا) محصودا متكسرا (كما كان في أول مرة أمدا مديدا) أي: ممتدا (وليته بقي كذلك، فما أحسنه لو ترك ترابا!) ومن هنا قول بعضهم:
(وجنة ينظر إليها المجرم فيتحسر) على دخولها (ويرى صحائف منشورة) قال تعالى: وإذا الصحف نشرت (فيقال له: اقرأ كتابك ) كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا (فيقول: وما هو؟ فيقال) له: (كان قد وكل بك في حياتك التي كنت) تفرح بها في الدنيا (وتتكبر بنعيمها، وتفتخر بأسبابها) وأعراضها (ملكان رقيبان) عتيدان (يكتبان عليك ما كنت تنطق به وتعمله من قليل وكثير، وصغير وكبير، ونقير وقطمير) وأصل النقير النكتة التي على ظهر النواة، والقطمير قشرتها، والمراد بهما القلة (وأكل وشرب، وقيام وقعود، قد نسيت ذلك وأحصاه الله) وضبطه (عليك، فهلم إلى حساب، واستعد للجواب، أو تساق إلى دار العذاب، فينقطع قلبه فزعا من هول هذا الخطاب، قبل أن تنشر الصحيفة، ويشاهد ما فيها من مخازيه) وفضائحه .
(فهذا آخر أمره، وهو معنى قوله تعالى: ثم إذا شاء أنشره فما لمن هذا حاله وللتكبر، بل ما له وللفرج في لحظة، فضلا عن البطر والتبختر؟! فقد ظهر له أول حاله ووسطه، ولو ظهر) له (آخره -والعياذ بالله تعالى- ربما اختار أن يكون كلبا أو خنزيرا ليصير مع البهائم ترابا، ولا يكون إنسانا، يسمع خطابا، أو يلقى عذابا) .
ونظر إلى هذا nindex.php?page=showalam&ids=2عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- فقال: "ليتني كنت كبش أهلي، سمنوني ما بدا لهم، حتى إذا كنت أسمن ما أكون، زارهم بعض من يحبون، فجعلوا بعضي شواء، وبعضي قديدا، ثم أكلوني، فأخرجوني عذرة، ولم أك بشرا" أخرجه nindex.php?page=showalam&ids=17259هناد في الزهد، عن أبي معاوية، عن جويبر، عن الضحاك، عن nindex.php?page=showalam&ids=2عمر.
وقال nindex.php?page=showalam&ids=83المسور بن مخرمة: "لما طعن nindex.php?page=showalam&ids=2عمر قال: والله لو أن لي طلاع الأرض ذهبا لافتديت به من عذاب الله من قبل أن أراه".
(وإن كان عند الله مستحقا عذابا) وفي نسخة: للنار (فالخنزير أشرف منه، وأطيب، وأرفع؛ إذ أوله التراب، وآخره [ ص: 393 ] التراب، وهو بمعزل عن الحساب والعذاب، و) أيضا فإن (الخنزير والكلب لا يهرب منه الخلق، ولو رأى أهل الدنيا العبد المذنب في النار لصعقوا من) الرؤية إلى (وحشة خلقته، وقبح صورته) أي: سقطت قوتهم .
(ولو وجدوا ريحه لماتوا بنتنه، ولو وقعت قطرة من شرابه الذي يسقى منه في بحار الدنيا لصارت أنتن من الجيفة، فمن هذا حاله في العاقبة) والمآل (إلا أن يعفو الله عنه) ويسامح له (وهو على شك من العفو) هل يعفى له أم لا (فكيف يفرح ويبطر وكيف يتكبر) على إخوانه؟! (وكيف يرى نفسه شيئا حتى يعتقد له فضلا؟! وأي عبد لم يذنب ذنبا استحق به العقوبة إلا أن يعفو الكريم بفضله) وإحسانه (أو يجبر الكسر بمنه، والرجاء منه ذلك؛ لكرمه وحسن الظن به، أرأيت من جنى على بعض الملوك بما استحق به ضرب ألف سوط، فحبس في السجن، وهو ينتظر أن يخرج إلى العرض، وتقام عليه العقوبة على ملأ من الخلق، وليس يدري أيعفى عنه أم لا، كيف يكون ذله في السجن) وينسى ما أعد له من العقوبة .
(وقد استحق العقوبة من الله تعالى، ولا يدري كيف يكون أمره، فيكفيه ذلك حزنا وخوفا، وإشفاقا ومهانة وذلا، فهذا هو العلاج العلمي القاطع) وفي نسخة: القامع (لأصل الكبر) من سنخه .