فنقول : الورع والتقوى والعبادة والعمل الذي به يعجب إنما يعجب به من حيث إنه فيه ، فهو محله ومجراه ، أو من حيث إنه منه وبسببه وبقدرته وقوته . فإن كان يعجب به من حيث إنه فيه وهو محله ومجراه يجري ، فيه وعليه من جهة غيره ، فهذا جهل لأن المحل مسخر ومجرى لا مدخل له في الإيجاد والتحصيل فكيف يعجب بما ليس إليه وإن كان يعجب به من حيث إنه هو منه وإليه وباختياره حصل ، وبقدرته تم ، فينبغي أن يتأمل في قدرته وإرادته وأعضائه وسائر الأسباب التي بها يتم عمله أنها من أين كانت له ? فإن كان جميع ذلك نعمة من الله عليه من غير حق سبق له ، ومن غير وسيلة يدلي بها ، فينبغي أن يكون إعجابه بجود الله ، وكرمه ، وفضله ؛ إذ أفاض عليه ما لا يستحق وآثره به على غيره من غير سابقة ووسيلة فمهما برز الملك لغلمانه ، ونظر إليهم ، وخلع من جملتهم على واحد منهم لا لصفة فيه ، ولا لوسيلة ، ولا لجماله ، ولا لخدمة ، فينبغي أن يتعجب المنعم عليه من فضل الملك وحكمه وإيثاره من غير استحقاق وإعجابه بنفسه من أين ? وما سببه ولا ينبغي ؟ أن يعجب بنفسه .
نعم ، يجوز أن يعجب العبد فيقول : الملك حكم عدل ، لا يظلم ولا يقدم ولا يؤخر إلا لسبب فلولا أنه تفطن في صفة من الصفات المحمودة الباطنة لما اقتضى الإيثار بالخلعة ، ولما آثرني بها فيقال وتلك الصفة أيضا هي من خلعة الملك وعطيته التي خصصك بها من غيرك من غير وسيلة ، أو : هي عطية غيره ? فإن كانت من عطية الملك أيضا لم يكن لك أن تعجب بها ، بل كانوا كما لو أعطاك فرسا فلم تعجب به .
فأعطاك غلاما فصرت تعجب به ، وتقول : إنما أعطاني غلاما ؛ لأني صاحب فرس فأما غيري فلا فرس له ، فيقال : وهو الذي أعطاك الفرس ، فلا فرق بين أن يعطيك الفرس والغلام معا ، أو يعطيك أحدهما بعد الآخر ، فإذا كان الكل منه فينبغي أن يعجبك جوده وفضله لا نفسك .
وأما إن كانت تلك الصفة من غيره فلا يبعد أن تعجب بتلك الصفة ، وهذا يتصور في حق الملوك ولا يتصور في حق الجبار القاهر ملك الملوك المنفرد باختراع الجميع المنفرد بإيجاد الموصوف والصفة ؛ فإنك إن أعجبت بعادتك وقلت : وفقني للعبادة لحبي له ، فيقال : ومن خلق الحب في قلبك ? فتقول : هو ، فيقال : فالحب والعبادة كلاهما نعمتان من عنده ، ابتدأك بهما من غير استحقاق من جهتك ؛ إذ لا وسيلة لك ولا علاقة ، فيكون الإعجاب بجوده إذ أنعم بوجودك ووجود صفاتك وبوجود أعمالك وأسباب أعمالك . فإذا : لا معنى لعجب العابد بعبادته ، وعجب العالم بعلمه ، وعجب الجميل بجماله ، وعجب الغني بغناه ؛ لأن كل ذلك من فضل الله وإنما هو محل لفيضان فضل الله تعالى وجوده ، والمحل أيضا من فضله وجوده .
. فإن قلت : لا يمكنني أن أجهل أعمالي وإني أنا عملتها فإني أنتظر عليها ثوابا ولولا أنها عملي لما انتظرت ثوابا ، فإن كانت الأعمال مخلوقة لله على سبيل الاختراع فمن أين لي الثواب ؟! وإن كانت الأعمال مني وبقدرته فكيف لا أعجب بها فاعلم أن جوابك من وجهين :
أحدهما هو : صريح الحق .
والآخر فيه مسامحة .
أما صريح الحق فهو أنك وقدرتك وإرادتك وحركتك وجميع ذلك من خلق الله واختراعه ، فما عملت إذ عملت وما صليت إذ صليت وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى فهذا هو الحق الذي انكشف لأرباب القلوب بمشاهدة أوضح من إبصار العين بل خلقك ، وخلق أعضاءك ، وخلق فيها القوة والقدرة والصحة وخلق لك العقل والعلم ، وخلق لك الإرادة ، ولو أردت أن تنفي شيئا من هذا عن نفسك لم تقدر عليه ، ثم خلق الحركات في أعضائك مستبدا باختراعها من غير مشاركة من جهتك معه في الاختراع إلا أنه خلقه على ترتيب فلم يخلق الحركة ما لم يخلق في العضو قوة وفي القلب إرادة ولم يخلق إرادة ما لم يخلق علما بالمراد ، ولم يخلق علما ما لم يخلق القلب الذي هو محل العلم فتدريجه في الخلق شيئا بعد شيء هو الذي خيل لك أنك أوجدت عملك ، وقد غلطت .
وإيضاح ذلك ، وكيفية الثواب على عمل هو من خلق الله سيأتي تقريره في كتاب الشكر ؛ فإنه أليق به ، فارجع إليه .
فلنفرض العجب بفعل داخل تحت اختيار العبد، كالعبادة والصدقة والغزو وسياسة الخلق وإصلاحهم، فإن العجب بهذا أبلغ من العجب بالجمال والقوة والنسب، و) كل (ما لا يدخل تحت اختياره، ولا يراه من نفسه، فنقول: الورع والتقوى والعبادة والعمل الذي به يعجب إنما يعجب به من حيث إنه فيه، فهو محله ومجراه، أو) يعجب به (من حيث إنه منه وبسببه وبقدرته وبقوته .
فإن كان يعجب به من حيث إنه فيه وهو محله ومجراه، ويجري فيه وعليه من جهة غيره، فهذا جهل) من المعجب (لأن المحل) إنما هو (مسخر ومجرى) يجري فيه (لا مدخل له في الإيجاد والتحصيل) ولا يد له في شيء منهما (فكيف يعجب بما ليس إليه) ولا مدخل له فيه .
(وإن كان يعجب به من حيث هو منه وإليه وباختياره حصل، وبقدرته وقوته تم، فينبغي أن يتأمل في قدرته وإرادته وأعضائه وسائر الأسباب التي بها تم عمله أنها من أين كانت له؟) وكيف تيسرت له؟ (فإن كان جميع ذلك نعمة من الله عليه من غير حق سبق له، ومن غير وسيلة يدلي بها، فينبغي أن يكون إعجابه بجود الله تعالى، وكرمه، وفضله؛ إذ أفاض عليه ما لا يستحقه) وخصصه (وآثره به على غيره من غير سابقة ووسيلة) يمن بها .
(فمهما برز الملك لغلمانه، ونظر إليهم، وخلع من جملتهم على واحد منهم) خلعة (لا لصفة فيه، ولا لوسيلة، ولا لجمال، ولا لخدمة، فينبغي أن يتعجب المنعم عليه من فضل الملك وحكمه وإيثاره) له من دونهم (من غير استحقاق) ظاهر له (فإعجابه بنفسه من أين؟ وما سببه؟ ولم ينبغ أن يعجب هو بنفسه .
نعم، يجوز أن يعجب العبد فيقول: الملك حكم عدل، لا يظلم) أحدا (ولا يقدم ولا يؤخر إلا لسبب) خفي [ ص: 412 ] على مدركه .
(فلولا أنه تفطن في صفة من الصفات المحمودة الباطنة لما اقتضى الإيثار بالخلعة، ولما آثرني بها) واختصني من دونهم (فيقال) له: (وتلك الصفة هي أيضا من خلعة الملك وعطيته التي خصصك بها عن غيرك من غير وسيلة، أو: هي عطية غيره؟ فإن كانت من عطية الملك أيضا لم يكن لك أن تعجب بها، بل كان كما لو أعطاك فرسا) تركبه (فلم تعجب به، فأعطاك غلاما فصرت تعجب به، وتقول: إنما أعطاني غلاما؛ لأني صاحب فرس) إذ صاحب الفرس لا يستغني عن غلام (وأما غيري فلا فرس له، فيقال: وهو الذي أعطاك الفرس، فلا فرق بين أن يعطيك الفرس والغلام معا، أو يعطي أحدهما بعد الآخر، فإذا كان الكل منه فينبغي أن يعجبك جوده وفضله لا نفسك .
وأما إن كانت تلك الصفة من غيره فلا يبعد أن يعجب بتلك الصفة، وهذا يتصور في حق الملوك) في الدنيا (ولا يتصور في حق الجبار القاهر ملك الملوك) جل جلاله (المنفرد باختراع الجميع) من غير سابق مثال (المنفرد بإيجاد الموصوف والصفة؛ فإنك إن أعجبت بعبادتك وقلت: وفقني للعبادة لحبي له، فيقال: ومن خلق الحب في قلبك؟ فتقول: هو، فيقال: فالحب والعبادة كلاهما نعمتان من عنده، ابتدأك بهما من غير استحقاق من جهتك؛ إذ لا وسيلة لك ولا علاقة، فيكون الإعجاب بجوده إذ أنعم بوجودك وبوجود صفاتك وبوجود أعمالك وأسباب أعمالك .
فإذا: لا معنى لعجب العابد بعبادته، وعجب العالم بعلمه، وعجب الجميل بجماله، وعجب الغني بماله؛ لأن كل ذلك من فضل الله) ومن إحسانه وجوده وكرمه (وإنما هو محل لفيضان فضل الله وجوده، والمحل أيضا من جوده وفضله .
فإن قلت: لا يمكنني أن أجحد أعمالي وأني أنا عملتها) أي: لا يمكنني إنكارها (فإني أنتظر عليها ثوابا) أي: جزاء ومكافأة (ولولا أنها عملي) وصدر مني (لما انتظرت عليها الثواب، فإن كانت الأعمال مخلوقة لله على سبيل الاختراع فمن أين لي الثواب؟! وإن كانت الأعمال مني وبقدرتي فكيف لا أعجب بها) وهي في محل الإعجاب؟!
(فاعلم أن جوابك) عن هذا الإشكال (من وجهين: أحدهما: وهو صريح الحق، والآخر فيه مسامحة ما .
أما صريح الحق فهو أنك وقدرتك وإرادتك وحركتك جميع ذلك من خلق الله تعالى واختراعه، فما عملت إذ عملت) إلا بإعانته (وما صليت إذ صليت) إلا بتأييده، وإلى هذا الإشارة بقوله تعالى يخاطب به حبيبه -صلى الله عليه وسلم- ( وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى ) وقد تقدم الكلام على هذا في مواضع من هذا الكتاب، فأغنانا عن إعادته (فهذا هو الحق) الصريح (الذي انكشف لأرباب القلوب) لما ترقوا من حضيض المجاز إلى ارتفاع الحقيقة، واستكملوا معراجهم (بمشاهدة) عيانية (أوضح من إبصار العين) فليس في الوجود إلا الله، وكل شيء سواه إذا اعتبرت ذاته من حيث ذاته فهو عدم محض، وإذا اعتبر من الوجه الذي يسري إليه الوجود من الأزل رؤي موجودا لا في ذاته لكن من الوجه الذي يلي موجده فيكون الموجود وجه الله فقط، ولكل شيء وجهان، وجه إلى نفسه ووجه إلى ربه، فهو باعتبار وجه نفسه عدم وباعتبار وجه الله موجود، فإذا: لا موجود إلا الله ووجهه .
(بل خلقك، وخلق أعضاءك، وخلق فيها القوة والقدرة والصحة) والكمال (وخلق لك العقل والعلم، وخلق لك الإرادة، ولو أردت أن تنفي شيئا من هذا عن نفسك لم تقدر عليه، ثم خلق الحركات في أعضائك) مختلفة الأحوال (مستبدا بها) [ ص: 413 ] أي: مستقلا بذاته (من غير مشاركة من جهتك معه في) أصل (الاختراع) والابتداع (إلا أنه خلقه على ترتيب) بديع (فلم يخلق الحركة ما لم يخلق في العضو قوة) لاحتمالها (وخلق في القلب إرادة ولم يخلق إرادة ما لم يخلق علما بالمراد، ولم يخلق العلم ما لم يخلق القلب الذي هو محل العلم) ومستقره، ومصدر أحكامه، فهذه الثلاثة مرتبة، بعضها أعلى من بعض، ولكل واحد مقام معلوم، ودرجة خاصة لا تتعداه .
وكذلك الأنوار الملكوتية إنما وجدت على ترتيب كذلك، وهي لا تتسلسل إلى غير نهاية، بل ترتقي إلى منبع أول هو النور لذاته وبذاته، ليس يأتيه نور من غيره، ومنه تشرق الأنوار كلها على ترتيبها .
(فتدريجه في الخلق شيئا بعد شيء هو الذي خيل إليك أنك أوجدت عملك، وقد غلطت) في هذا التخييل (وإيضاح ذلك، وكيفية الثواب على عمل هو من خلق الله سيأتي تقريره في كتاب الشكر؛ فإنه أليق به، فارجع إليه) وطالعه .