الركن الثاني فيما عنه التوبة ، وهي الذنوب صغائرها وكبائرها .
اعلم أن التوبة ترك الذنب ولا يمكن ترك الشيء إلا بعد معرفته وإذا كانت التوبة واجبة كان ما لا يتوصل إليها إلا به واجبا فمعرفة الذنوب إذن واجبة ، والذنب عبارة عن كل ما هو مخالف لأمر الله تعالى في ترك أو فعل وتفصيل ذلك يستدعي شرح التكليفات من أولها إلى آخرها ، وليس ذلك من غرضنا ولكنا نشير إلى مجامعها ، وروابط أقسامها والله الموفق للصواب برحمته .
اعلم أن للإنسان أوصافا وأخلاقا كثيرة على ما عرف شرحه في كتاب عجائب القلب وغوائله ، ولكن تنحصر مثارات الذنوب في أربع صفات صفات ربوبية ، وصفات شيطانية ، وصفات بهيمية ، وصفات سبعية ، وذلك لأن طينة الإنسان عجنت من أخلاط مختلفة ، فاقتضى كل واحد من الأخلاط في المعجون منه أثرا من الآثار كما يقتضي السكر والخل والزعفران في السكنجبين آثارا مختلفة فأما ما يقتضي النزوع إلى الصفات الربوبية ; فمثل الكبر ، والفخر ، والجبرية ، وحب المدح ، والثناء ، والغنى ، وحب دوام البقاء ، وطلب الاستعلاء على الكافة حتى كأنه يريد أن يقول أنا ربكم الأعلى وهذا يتشعب منه جملة من كبائر الذنوب غفل عنها الخلق ، ولم يعدوها ذنوبا وهي ، المهلكات العظيمة التي هي كالأمهات لأكثر المعاصي كما استقصيناه في ربع المهلكات الثانية هي الصفة الشيطانية التي منها يتشعب الحسد ، والبغي ، والحيلة ، والخداع ، والأمر بالفساد والمكر ، وفيه يدخل الغش ، والنفاق ، والدعوة إلى البدع والضلال الثالثة الصفة البهيمية ، ومنها يتشعب الشره ، والكلب ، والحرص على قضاء شهوة البطن والفرج ، ومنه يتشعب الزنا واللواط ، والسرقة ، وأكل مال الأيتام ، وجمع الحطام لأجل الشهوات . الرابعة الصفة السبعية ، ومنها يتشعب الغضب ، والحقد والتهجم على الناس بالضرب ، والشتم ، والقتل ، واستهلاك الأموال ويتفرع عنها جمل من الذنوب وهذه الصفات لها تدريج في الفطرة فالصفة البهيمية هي التي تغلب أولا ، ثم تتلوها الصفة السبعية ثانيا ، ثم إذا اجتمعا استعملا العقل في الخداع والمكر والحيلة ، وهي الصفة الشيطانية ، ثم بالآخرة تغلب الصفات الربوبية ، وهي الفخر ، والعز ، والعلو ، وطلب الكبرياء ، وقصد الاستيلاء على جميع الخلق فهذه أمهات الذنوب ومنابعها ، ثم تنفجر الذنوب من هذه المنابع على الجوارح ، فبعضها في القلب خاصة كالكفر والبدعة والنفاق وإضمار السوء للناس ، وبعضها على العين والسمع ، وبعضها على اللسان ، وبعضها على البطن والفرج ، وبعضها على اليدين والرجلين ، وبعضها على جميع البدن ، ولا حاجة إلى بيان تفصيل ذلك فإنه واضح .
(الركن الثاني فيما عنه التوبة، وهي الذنوب صغائرها وكبائرها) ومعرفة حدود كل منها .
(اعلم) ، وفقك الله تعالى (أن التوبة) في الأصل رجوع إلى الله تعالى، ولا يكون الرجوع إلا بترك ما كان ملتبسا به; فلذلك قلنا: إن التوبة (ترك للذنب) أي: لفعله وإيقاعه، (ولا يمكن ترك الشيء إلا بعد معرفته) فما لا يعرف كيف يترك، (وإذا كانت التوبة واجبة) على ما تقرر (كان ما لا يتوصل إليها إلا به واجبا) أيضا (فمعرفة الذنوب) بأقسامها (إذن واجبة، والذنب) أصله الأخذ بذنب الشيء، وفي العرف الشرعي (عبارة عن كل ما هو مخالف لأمر الله في ترك أو فعل) مما تستوخم عاقبته، ولذلك سمي تبعة اعتبارا بما يحصل من عاقبته، وهو عند أهل الله ما يحجب عن الله تعالى .
(وتفصيل ذلك يستدعي شرح التكليفات) الشرعية (من أولها إلى آخرها، وليس ذلك من غرضنا) الآن، (ولكنا نشير إلى مجامعها، وروابط أقسامها) التي منها تتفرع أنواعها، (والله الموفق للصواب برحمته) وفضله .
(اعلم) أرشدك الله تعالى أن صاحب القوت قسم الذنوب إلى سبعة ضروب بعضها أعظم من ذنب، لكل منها مراتب، في كل مرتبة من المذنبين طبقة، وقد فصلها المصنف تفصيلا غريبا، وحصرها في ثلاث قسم; فقال في القسمة الأولى: (إن للإنسان أوصافا وأخلاقا كثيرة على ما عرف شرحه في كتاب عجائب القلب وغوائله، ولكن تنحصر) هنا (مثارات الذنوب في أربع صفات) هي منابعها (صفات ربوبية، وصفات شيطانية، وصفات بهيمية، وصفات سبعية، وذلك لأن طينة الإنسان عجنت من أخلاط مختلفة، فاقتضى كل واحد من الأخلاط في المعجون منه أثرا من الآثار كما يقتضي السكر) أو العسل، (والخل) وفي بعض النسخ زيادة: والزعفران (في السكنجبين آثارا مختلفة) ، ولا أعرف من الأطباء من ذكر الزعفران من جملة أجزاء السكنجبين، وإنما هو مركب من عسل، أو سكر، وخل، ومنهم من يزيد فيه نعناعا .
(فأما ما يقتضي النزوع إلى الصفات الربوبية; فمثل الكبر، والفخر، والجبرية، وحب المدح، والثناء، والعز، والغنى، وحب دوام البقاء، وطلب الاستعلاء على الكافة) فهذه كلها من الصفات المختصة بالرب تعالى (حتى كأنه يريد) إذا اجتمعت فيه تلك الصفات (أن يقول) للناس: (أنا ربكم الأعلى) كما قاله فرعون، (وهذا تتشعب منه جملة من كبير الذنوب غفل عنها الخلق، ولم يعدوها ذنوبا، وهى) في الحقيقة (المهلكات العظيمة التي هي كالأمهات لأكثر [ ص: 529 ] المعاصي كما استقصيناه في ربع المهلكات) ، وفيها من العموم طبقات .
(الثانية هي الصفة الشيطانية التي منها يتشعب الحسد، والبغي، والحيلة، والخداع، والأمر بالفساد، و) الإفساد، (والمنكر، وفيه يدخل الغش، والنفاق، والدعوة إلى البدع) المنكرة، (والضلال) ، وهي كبائر منها ما يذهب الإيمان، وينبت النفاق، وست منها من كبائر البدع، وهي تنغل عن المسألة: القدرية، والمرجئة، والرافضة، والإباحية، والجهمية، والساطخية، والمعطلة.
(الثالثة الصفة البهيمية، ومنها يتشعب الشره، والكلب، والحرص على قضاء شهوة البطن والفرج، ومنه يتشعب الزنا، واللواط، والسرقة، وأكل مال الأيتام، وجمع الحطام لأجل الشهوات .
الرابعة) هي (الصفة السبعية، ومنها يتشعب الغضب، والحقد) ، والضغن، (والتهجم على الناس بالضرب، والشتم، والقتل، واستهلاك الأموال) وهذه تتعلق بمظالم العباد في أمر الدنيا، (وتتفرع عنها جمل من الذنوب) مستكثرة: كالكذب، والبهتان، وغيرهما، وهذه موبقات، ولا بد فيها من القصاص بين يدي الله تعالى، إلا أن يقع الاستحلال، ويستوهبها الله من أربابها بكرمه، ويعوض المظلومين عليها في جناته بجوده، (وهذه الصفات لها تدرج في) أصل (الفطرة فالصفة البهيمية هي التي تغلب أولا، ثم تتلوها) الصفة (السبعية ثانيا، ثم إذا اجتمعا استعملا العقل في الخداع والمكر والحيلة، وهي الصفة الشيطانية، ثم بالآخرة تغلب الصفات الربوبية، وهي الفخر، والعز، والعلو، وطلب الكبرياء، وقصد الاستيلاء على جميع الخلق فهذه أمهات الذنوب) ، وأصولها، (ومنابعها، ثم تنفجر الذنوب) بأنواعها (من هذه المنابع على الجوارح، فبعضها في القلب خاصة كالكفر والبدعة والنفاق وإضمار السوء للناس، وبعضها على العين والسمع، وبعضها على اللسان، وبعضها على البطن والفرج، وبعضها على اليدين والرجلين، وبعضها على جميع البدن، ولا حاجة إلى تفصيل ذلك فإنه واضح) فهذه قسمة الذنوب بحسب الصفات